أيها السادة الرأسماليون، ماذا بعد السوق الحرة ؟!

الجزء الاول

 جليل شهباز

    بعد أنهيار جدار برلين سنة 1989، أقام الرأسماليون، وبمعيتهم خدمهم من مفكري الأقتصاد السياسي البرجوازي، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها وملئوها صراخا" وزعيقا"وأقاموا الأحتفالات والولائم في كل مكان ظنا" منهم بأن ذلك الحدث هو بمثابة المسمار الأخير في نعش الأشتراكية كما وروج الإعلام البرجوازية بأن الاشتراكية والفكر الماركسي قد إنتهيا وإلى الأبد! وليس هذا فقط بل، ووعدوا البشرية بحقبة تاريخية جديدة، سموها بالنظام العالمي الجديد، التي تتميز بالحرية والديمقراطية والرفاه والأزدهار الأقتصادي وأوهموا البشرية بأنهم سيعيشون في الفردوس المنتظر .. ولكن الذي حصل وكما يعلم الجميع وما ذاقته البشرية لحد الآن، فإن ثمار ذلك الزرع الفاسد كان كالعلقم بالنسبة للبشرية. حيث أنه لم يمضي بضعة أشهر على أنهيار جدار برلين حتى بدأت حرب الخليج الثانية على أثر أحتلال العراق للكويت، وكما هو معلوم فإن تلك الحرب اللعينة قد حصدت أرواح مئات الألوف من العراقيين إضافة إلى الكارثة الإنسانية الرهيبة التي تعرض لها الشعب الكويتي من جراء عملية الأحتلال، وليس هذا فقط بل، وأن الآثار الجانبية لتلك الحرب المدمرة على الإنسان في عموم المنطقة لم تكن أقل كارثية مقارنة" بالضحايا البشرية لتلك الحرب. أما بهذا الخصوص فإن تلوث البيئة قد ترك آثارا" ضارة ومستمرة على الطبيعة وعلى حياة ومعيشة البشر في عموم منطقة الخليج وكذلك حتى على صحة جنود التحالف الأمريكي الغربي نتيجة لأستعمال تلك القوات لبعض الأسلحة الممنوعة دوليا" والتي إحتوت على اليورانيوم المنضب. وعلى أثر ذلك الحرب فإن مئات الألوف من العائلات العراقية قد بقيت دون معيل. والأسوء من كل هذا وذاك، فإن معظم الهياكل الأرتكازية والبناء التحتي للأقتصاد العراقي قد تم تدميرها وهذا ما أدى إلى شلل شبه تام للحياة القتصادية للمجتمع وبذلك فقد رجع المجتمع العراقي عشرات السنين إلى الوراء. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى أقدم النظام العالمي الجديد وبمباركة الأنظمة الديمقراطية في الغرب وما يسمى ”بالعالم الحر“ على فرض الحصار الأقتصادي الأمريكي الجائر على جماهير العراق ومن جراء ذلك الحصار الظالم قصم ظهر المواطن العراقي وكان ذلك الحصار أشد قساوة" على حياة ومعيشة المواطن العراقي بعشرات المرات مقارنة بخسائر وضحايا ذلك الحرب فسرعان ما شاع الفقر والبؤس الأجتماعي والفساد بكل معانيه وأشكاله داخل المجتمع العراقي والأسوء من كل ذلك ونتيجة" لأستمرار الحصار على الغذاء والدواء والمأكل والملبس فقد تعرض النسيج الأجتماعي في العراق للتلف فأختفت كل المؤسسات الاجتماعية التي كانت تراعي سلامة النسيج المدني ورافقها تفكك للعائلة العراقية والهجرة المليونية إلى خارج العراق بحثا" عن لقمة العيش إضافة" إلى شيوع أشد التقاليد والعادات الرجعية اللا إنسانية وعلى أثر كل ذلك إضطرت العائلة العراقية حتى إلى دفع الأطفال إلى سوق العمل وأمسوا يشتغلون في أحط الأعمال قذارة" وقساوة، كما وإضطر افراد العائلة العراقية حتى من ذوي الكفاءات العلمية من أساتذة الجامعات والمعاهد ومرورا" بضباط الجيش وموظفي الدولة الكبار، إلى مزاولة أكثر من عمل في اليوم الواحد بغية تأمين الحد الأدنى والمتطلبات الأساسية للمعيشة لهم ولعائلاتهم. وكان الحرمان من الدواء والغذاء يحصد يوميا" أرواح المئات من أطفال وشيوخ العراق وأصبح معدل الأعمار لا يتجاوز الأربعين عاما". وعليه فإذا وضعنا كل ذلك جانبا" فإن الديمقراطية الأمريكية الغربية وأسياد العالم الحروأبطال السوق الحرة قد جعلوا العراق مختبرا" للمأساة الإنسانية الرهيبة بغية استخلاص الدروس حول كيفية تحقيق الأستراتيجيات السياسية من المأساة الإنسانية.  واستمر الحصار الأمريكي الغربي على جماهير العراق حتى فترة طويلة بعد الغزو الأمريكي للعراق وعندما ألغي الحصار الاقتصادي كان ذلك الحصار اللعين قد حصد أرواح أكثر من مليون ونصف المليون مواطن عراقي وفق الأحصائيات الرسمية للأمم المتحدة.. واستمرت إفرازات السموم التي كان يولدها النظام العالمي الجديد. فبينما كانت جماهير العراق لا تزال تئن من وطأة الحصار الأقتصادي الجائر حتى بزغت أحداث ايلول المأساوية على اثر الإفلاس السياسي والاجتماعي الذي تعرضت لها الحركة القومية العربية والقومويين العرب على وجه الخصوص وأنظمة الحكم القومية في العالم على وجه العموم، وبروز الإسلام السياسي كبديل سياسي واجتماعي للقوموية وصيرورته القطب المضاد لأمريكا والتحالف الغربي، إضافة" إلى الأستغلال الوحشي الذي كانت تمارسه مختلف التكتلات الأمبريالية بحق شعوب العالم الثالث ونهب ثرواتهم مما أدى إلى ولادة السخط والبغض والأستهجان للسياسات الأمريكية الغربية لدى منظمات الاسلام السياسي الارهابية. وإستمر مسلسل الأحداث فجاء غزو أفغانستان، صحيح، قد أزاح كابوس سلطة حركة طالبان والقاعدة من على صدر المجتمع الأفغاني ولكن كان الثمن فاتورة من المأسي والكوارث الإنسانية المرعبة والتي من ورائها لازال المجتمع الأفغاني يدفع ثمن تلك الفاتورة أسوة بالمجتمع العراقي وإن ما حصل في أفغانستان لم يكن آثارها أقل مأساوية وكارثية من الذي حصل في العراق.. ولم تهدأ الحرب في أفغانستان حتى تبعتها عملية غزو العراق من قبل الجيوش الأمريكية الغربية وما رافقها من مجازر بشرية وحشية بحق الجنود الأبرياء وبحق جماهير العراق، وهذا مازاد من الطين بلة حيث أن الركام الذي أحدثته حربي الخليج الأول والثانية فإن هذا الغزو قد حوله إلى رماد. وبهذا، لم يبق في العراق حجر على حجر وليس هذا فقط بل، وزالت الدولة بكل مؤسساتها السياسية والاجتماعية والقضائية من الوجود وغابت سيادة القانون على المجتمع وشاعت شريعة الغاب الإسلامي وأصبحت العصابات الإجرامية والمليشيات المسلحة الطائفية والقومية الرجعية تتحكم حتى بأدق مفاصل الحياة الأجتماعية والأقتصادية والسياسية في العراق، وعليه فإن النتائج الكارثية لهذا الغزو لايحتاج إلى تعليق ولا حتى إلى تحليل ذلك لأننه كل فرد في المجتمع العراقي وكل بيت وكل مدينة وكل شيء سواء كان من عالم الحيوان أو من عالم النبات قد لامس بصورة مباشرة الآثار السيئة والمدمرة لذلك الغزو. ولكنه مع ذلك يجب الإشارة إلى أن أسوء إفرازاتها كانت الحرب الطائفية التي إشتعلت على خلفية الغزو الأمريكي وما رافقها من موازنات جديدة للقوى السياسية والاجتماعية في العراق ، وكان أبرز خصائص تلك الحرب هو قتل البشر لمجرد أنتمائه إلى الطائفة الفلانية، لا وبل، قتله حتى لأن أسمه حسين أو عمر، إضافة" إلى سيادة أشد العادات والتقاليد الإسلامية الرجعية اللآإنسانية على المجتمع العراقي مما أدى إلى تحول العراق من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه إلى ميدان مغر" لصراع وتناحر مختلف أجهزة المخابرات العالمية التي كانت تبحث كل منها إلى تحقيق أهداف سياسية وعسكرية تخص دولتها. في حين كانت أهم خصيصة لهذه المرحلة هي أن سلطة الأحتلال قد نصبت فزاعة مهزوزة سمتها في البداية مجلس الحكم وبعدها الحكومة المؤقتة وأخيرا" الحكومة المنتخبة، والغريب في ذلك، فقد تجمع أحط خلق الله، من جلادي المجتمع والقوميين والمذهبيين المجردين من المشاعر والأحاسيس الإنسانية، حول تلك الفزاعة وقد تحولت تلك الفزاعة برفقة سيدها سلطة الأحتلال إلى قطب مناهض لقطب آخر يضم مختلف قوى الإسلام السياسي الرجعي المناهض للوجود الأمريكي (والحبل عالجرار ) ويتقطر أنهارا" من الدماء داخل المجتمع العراقي.. واستمرت الكوارث والمأساة تتكاثر بفضل النظام العالمي الجديد. فدفعوا حزب الله واسرائيل إلى معركة مدمرة .. ثم إنتقلت عدوى الديمقراطية والعالم الحر إلى قارة أفريقيا فإشتعلت حرب وحشية بين أثيوبيا وأريتيريا سرعان ما إنتشرت العدوى لتصاب بها الصومال بلد الكوارث والمأساة والبؤس والجوع والفقر.. هذا وإن تلك العدوى الفتاكة لا تزال تنتقل من قارة إلى أخرى وتدفع يوميا" الكثير من بلدان العالم للوقوف على شفير الهاوية. جدير بالذكر انه حتى دول أوربا العجوزة لم تسلم من تلك العدوى حيث أن النظام العالمي الجديد قد دفع مختلف الحكومات الأوربية لتصبح وحوشا كاسرة متعطشة إلى سلب مكتسبات ومنجزات الطبقة العاملة الأوربية التي حققوها بنضالهم ودمائهم وأمسوا يسلبون تلك المنجزات النضالية واحدة" بعد الأخرى وعلى أثر ذلك فقد وصلت سوء الأوضاع الأقتصادية والأجتماعية إلى حد أصبح معه تأمين الحد الأدنى للمعيشة مشكلة مستعصية بالنسبة إلى الفرد الأوربي.. وبناء" على كل ذلك فليس بوسع المرء أن يجد حتى ولو علامة مضيئة" واحدة في ذلك النظام العالمي الجديد لصالح الطبقة العاملة والجماهير المليونية في مختلف أرجاء العالم.

 

والأمر المهم في هذه المسألة كلها، هي إن أمبراطوريتهم المالية، مع كل جبروتها ووحشية استغلالها للبشرية وحجم التراكم الخيالي لرأس المال، بدأ ينهار أمام أعينهم ويكاد أن يزاح ذلك الكابوس المزعج والرهيب الذي يقلص زمام الخناق على العمال والكادحين يوما" بعد يوم، فحسب، بل، لم يبقى غير خطوة واحدة حتى تنتقل أزمة نظامهم المالي إلى المؤسسات الصناعية والإنتاجية. ومن سخرية القدر إن هذه الأزمة الخانقة وأنهيار النظام المالي العالمي للرأسمالية قد تصادفت هذه المرة مع الذكرى السنوية لأندلاع ثورة أكتوبر الأشتراكية العظمى.. وبغية وضع صورة واقعية لهذه الأزمة أمام القارئ العزيزي ينبغي أن نعلم في البداية ماهي كنه هذه الأزمة الخانقة؟

ولماذا أصابت هذه الأزمة في أول الأمر النظام المالي والمؤسسات المصرفية الأمريكية؟ وهل بوسع الرأسماليين الخروج من هذه الأزمة؟ وما هو الحل الإنساني للخروج من تلك الأزمة؟.

 

ولموضوعنا تتمة...

 

                                                                                       ‏10‏ تشرين الأول‏ 2008