حول اوضاع كردستان الحالية

 

عصام شكـــــري

ishukri@gmail.com

 

القوميون الكرد ؛ حزبا الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني كانا، ولغاية شن لحرب الامريكية على العراق في 2003، جناحان قويان من المعارضة الاسلامية - القومية لنظام صدام جمعتها المخابرات الامريكية. تحالف هذان الحزبان مع ”الشيعة“ من مجاميع الاسلام السياسي في حزب الدعوة والمجلس الاعلى، والعسكريين في الجيش العراقي والبعثيين والمخابرات كمشعان الجبوري واياد علاوي و”رجال اعمال“ من طينة احمد الجلبي  وحزب حميد مجيد موسى    القومي ليضفو وجها عراقيا كالحا على الحرب المجرمة التي خططت امريكا لها وحددت  لها ساعة صفر، ودخلوا باثر جيشها.

 

وحين شنت امريكا الحرب ، دمر البلد وقتل مئات الالاف من الابرياء وحطمت اجهزة الدولة بالكامل ومؤسسات المجتمع وعمت الفوضى والكارثة والقتال في الشوارع وتحولت المدن الى ساحات معركة وجاب الشيوخ والملالي والمرتزقة وحثالات القوميين والاسلاميين في الشوارع، وتشكلت الميليشيات الاسلامية الموالية والمعادية وعصابات الامر بالمعروف ونهبت المباني وحرقت المكاتب والوزارات وبدأت حملة اسلمة المجتمع بالارهاب وتفجير المحلات وسادت الصراعات الطائفية والقتل على الهوية والسيارات المفخخة وقصف المدن بالطائرات ودخل العراق في سيناريو اسود حالك. كل ذلك صاحبه انهيار كامل في البنى التحتية والخدمات والصحة العامة والمدارس وانهارت مكانة المرأة كليا.

 

في تلك الاثناء تم جلب اقطاب ”المعارضة“ ونصبوا بانتخابات هزيلة تم جر الناس اليها بالقوة والتخويف بالميليشيات المسلحة. وفي المحصلة الاخيرة تم تقسيم الحصص والمغانم الطائفية والدينية والقومية ومنحت رئاسة الجمهورية لرئيس الحزب الوطني الكردستاني جلال الطالباني ورئاسة الحكومة الاقليمية في كردستان الى البرزاني ووزعت بقية المناصب ”بالعدل والقسطاط“ على قوى الاسلام السياسي والرجعيين.

 

ان جلال الطالباني لم يكن مجرد شريك للاسلاميين. فرغم كونه احد ”ازلام“ امريكا المفضلين ومنفذ خنوع لاوامرها وسياساتها، ورغم قيامه بمجازر وحمامات دم ضد جماهير كردستان وحرق قرى باكملها، الا ان امريكا لم تمنحه هذه ”المكرمة“ لتلك الميزات الفريدة او انه فاز بها”بالقرعة“ او لانها ارادت تكريم ”شهداء“ الحركة القومية الكردية مثلا. لقد منح القوميون الكرد مناصبا مهمة لانهم لعبوا دورا محوريا في خلق وادامة والحفاظ على نظام امريكا في العراق. اهم ميزات ذلك النظام هو التقسيم الديني والطائفي والقومي والاثني حسب مصالح الساسة الرجعيين وميولهم وحصص نفوذهم ومناطق استثمارهم. كان القوميون الكرد على رأس تلك القوى واكثرها استقراراً وقدرة مقارنة مع الاسلاميين الشيعة وبقية ”الفلول“ حديثة العهد .

 

السؤال يتبادر للذهن وهو: ما معنى ان يكون القوميون الكرد دعامة من دعائم السلطة ونظام امريكا في العراق، بالنسبة لجماهير كردستان؟

 

ان الجواب يتوضح من خلال تتبع تغير الموقعية السياسية للقوميين الكرد، قبل وبعد الحرب: فمن معارضة في الجبال والمنافي، الى سلطة مركزية و“فدرالية“، تغير اساسي، استدعى تغيرات محورية في برامجهم احزابهم السياسية ازاء ما كانوا يعتبرونه ثوابت ”نضالية“  قومية في كردستان؛ بدءاً من مسألة استغلال الاظطهاد القومي للشوفينيبن العرب ممثلة بحكومة حزب البعث في بغداد (الارتكاز عليها لممارسة الاظطهاد ضد جماهير كردستان أنفسهم)، الى مساندة التيارات القومية الكردية ”الشقيقة“ في تركيا وايران والتعاطف معها ودعمها وتوفير الملاذات الامنة لها ضد حكومتي البلدين، الى تكسير ارجل الاسلام السياسي والتصدي لقواه في حلبجة ومناطق نفوذهم من اجل ترسيخ سلطتهم القومية—العشائرية، وغيرها ما كان يبدو انه جزءا لا يتجزأ من تعريف وسمة الحركة القومية وموقعيتها السياسية في كردستان. واليوم يبدو واضحا ان ابطال الاستقلال القومي هؤلاء (او الملوحين به ) قد صاروا بعد احتلال العراق وتقاسم المغانم والنفوذ والمناطق، مجرد ابواق تصرخ :عراق موحد فدرالي ديمقراطي...الى اخر الكليشه.

 

اختار اليمين الامريكي والمحافظين الجدد وجورج بوش النظام الفدرالي لحكم العراق لسببين: اولهما ان الفدرالية ترسخ نموذج امريكا في حكم العراق: اي نهج يستند الى تقسيم المجتمع على اسس دينية وطائفية وقومية واستبدال هوية افراد المجتمع كمواطنين بهويات دينية وطائفية وقومية وعشائرية، ومنح الشرعية لهذه التقسيمات وتخليدها باعتبارها صفات ”ابدية“، ذلك هو سمة اساسية لنموذج امريكا واليمين العالمي، وثانيهما، ان الشكل الفدرالي هو الاكثر مناسبة ( ان لم يكن في الواقع الوحيد المتاح ) لكي تتمكن المجاميع والشراذم المتصارعة من الاتفاق على كيفية تقاسم المناطق والواردات والارباح وكيفية الاستغلال ورسم حدود الاسواق الاقليمية ومناطق نفوذ كل برجوازية وتابعية الاراضي وبشكل متفق عليه داخل ”الحكومة“ الفدرالية. ان الفدرالية تلعب دورين احدهما، لتفتيت المجتمع وابقاءه منقسما وفي حالة صراع وتوتر ديني وطائفي وقومي مستمر، ومن جهة اخرى، كوسيلة لتفاهم قوى البرجوازية الحاكمة حول مناطق نفوذها، وليعرف كل منهم حدوده وحدود ”الاخر“.

  

ان حكومة ”اقليم كردستان“ اليوم تمارس السلطة ضمن هذا الدور، وهي جزء من هذه التشكيلة والنظام وليس منفصلة عنه. ان الصراعات الظاهرة والتي تنفجر كل يوم على صفحات الجرائد بينها وبين ”السلطة المركزية“ هي في الواقع مسألة ضرورية وطبيعية في نفس الوقت. فان اساس الفدرالية هو تأطير الصراعات بين مناطق نفوذ القوميين الكرد ومناطق نفوذ الاسلاميين الشيعة والسنة والعشائر الفلانية والافخاذ العلانية وهلمجرا. ان الصراع والجدل الذي يبدو اليوم ”ديمقراطيا“ وبوجود القوات الامريكية يتمحور حول حقوق الاستثمار النفطي في كركوك والقانون 140 و“حق“ القوميين الكرد في عقد الصفقات المستقلة مع الشركات الامريكية ومنحها امتيازات خاصة وغيرها. تلك، ليست ”امراض“ الفدرالية بل اعراضها. انها اعراض نظام التقسيم القومي والديني والطائفي نفسه. هذا النظام رجعي ومعادي للناس. قلنا ذلك ونعيد قوله. انه يعرض حياة الجماهير الى الخطر من اجل مصالح تلك القوى الرجعية ويتلاعب بمصيرها كل يوم بل وكل ساعة. ان حكومة اقليم كردستان جزء من نظام رجعي للحكم. وان دفاعها عن هذا النظام ككل لا يأتي الا لان ذلك النظام يمنح سلطتها المحلية شرعية وديمومة. ان انهيار الفدرالية في العراق او نشوب صراع حول المصالح سيدفع بالامور حتما الى هاوية الصراعات المسلحة وستقع الجماهير ضحية لهذه الصراعات. جماهير كردستان وكركوك ومناطق ”المحاذاة“ تدرك ذلك جيدا اكثر من غيرها. 

 

جماهير كردستان تتجرع اليوم مرارة السياسات الرجعية للقوميين الكرد. يعم التشاؤم والقلق الناس، ولا يتطلب الامر احصاءات او تأملات عميقة لادراك مشاعر المواطنين في تدهور الاوضاع. ان جرعة التفاؤل من انهيار النظام القومي  الفاشي لحزب البعث وتنفسهم الصعداء (دون ادراك حقيقة هذا الاحساس ومدى صحته)، قد استبدل اليوم باليأس والاحباط. لا بسبب ”خيانة“ القوميين الكرد لوعودهم وتعميقهم للحرمان والجوع والفقر والفساد والرشاوي والسرقات والنهب الواسع وعجزهم عن تحقيق “الجنة الديمقراطية“ و“اطلاق الحريات“  بل كبت الحريات وقمع الصحفيين والتعسف وانهيار وضع المرأة و انتحار مئات النساء او قتلهن على ايدي العشائر والاسلاميين. ليس بسبب هذا تحديدا، برأيي، بل ان الشعور بالاحباط مبعثه تبخر الوهم الذي نشرته امريكا والقوميين الكرد حول قدرة جماهير كردستان على السيطرة على مساراتهم السياسية وابعادهم عن الوحش القومي العربي واستبداله بحكومة فدرالية ”ديمقراطية” مقلمة الاظافر. اي مستقبل تراه الجماهير الان في ظل القوميين الكرد غير مستقبل المخاطر واحتمالات الحرب الدينية—الطائفية—القومية والتي لا تنتظر الا شرارة لتندلع وتجر معها الالاف من البشر الى محرقتها؟ فكل الميليشيات القومية والدينية والطائفية مسلحة وعلى اهبة الاستعداد !

 

ان سياسة القوميين الكرد واحزابهم الرجعية في ربط مسار الاوضاع في كردستان بشكل محكم بمسارات البرجوازية الاسلامية والقومية والمجاميع السنية والعشائرية وبقية قوى السيناريو الاسود في العراق وبتموضعهم داخل السلطة المركزية، قد دفعت، وستدفع،  جماهير كردستان ( والعراق على العموم ) الى حافة الصراعات والانقسامات والخنادق القومية والدينية والطائفية. كل يوم يمر بوجود هذه القوى الرجعية في السلطة يتراجع الامان والاحساس بالطمأنينة ويسود بدلها الكراهية والتوتر الديني والطائفي والحقد القومي.

 

لامصلحة لجماهير كردستان في البقاء ضمن هذه الاوضاع. والحقيقة ان لا مصلحة لعموم جماهير العراق في البقاء ضمن هذه الاوضاع  الكارثية . الا ان شروط خروج جماهير كردستان من هذه الاوضاع، متاحة ومتوفرة واكثر يسراً، اي قدرتها على الانفصال عن العراق ، والنأي بانفسها عن السيناريو الدموي في الاوضاع الحالية. ان ذلك يوجه اكبر ضربة لسياسات القوميين الكرد. ومن جهة اخرى فان الاستقلال سيسهل نضال جماهير كردستان وعماله من اجل مطالبها في الحرية والمساواة والاشتراكية والعلمانية.

 

في هذه الظروف فان الاستقلال سيوفر لجماهير كردستان الشروط الافضل من اجل تأمين حياة مستقرة بعيدة عن الخوف والترقب والاحقاد القومية وبعيدا عن التهديدات وصفقات الرجعيين وسياسات امريكا. يمكن تنظيم استفتاء عام للجماهير في كردستان حول الاستقلال بحضور منظمات دولية. حزبنا وحسب قراره بهذا الصدد سيطالب بتحديد نظام وشكل الحكومة القادمة من خلال مشاركة الجماهير المباشرة.