كلا ، ليست تغييرات أمريكية

 

عصام شكــري

 

 

هل ان الحرب الامريكية في العراق وسياسات النظام العالمي الجديد هو مصدر ما يسمى التغييرات الديمقراطية الجارية في بعض دول المنطقة، حسب ادعاء بعض اوساط اليمين المحلي والعالمي؟ وهل ان التدخل والضغوط والعسكريتاريا الامريكية تصب أصلاً في صالح الجماهير وحريتها ومساواتها ومطامحها ورفاهها ام ان لها اجندة اخرى ابسط مظاهرها اغراق المنطقة في الدماء و الفوضى والصراع والارهاب والعسكريتاريا المتجددة والتفتيت الاجتماعي والطائفية والعشائرية والاسلام السياسي ومعاداة العلمانية وسيطرة رأسمال السوق الحرة واخضاع الجماهير المليونية المحرومة في المنطقة لرحمة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والشركات الرأسمالية الضخمة؟!!

 

الصورة الظاهرة لقوى اليمين تبدو كالتالي: امريكا احتلت العراق واسقطت حكومة استبدادية قومية وقد استعملت حجة مناسبة وهي حيازة صدام لاسلحة الدمار الشامل واكاذيب اخف وطأة من قبيل علاقة صدام بالقاعدة بعد احداث 11 ايلول واخرى اكثر تفاهة وهي معاداة صدام للديمقراطية. جرت انتخابات وصفت بالديمقراطية بعد اقتلاع الدولة. انتخابات تحت الهيمنة الامريكية حاولت ابواق الدعاية الغربية والمحلية الايحاء بمشاركة الجماهير فيها بحماسة وشوق. واليوم فان  العراق ينعم بديمقراطية امريكا الطائفية والمذهبية والعشائرية. ان ذلك حسب اعتبارات اليمين تحولا مهما يمثل تحسنا في حياة الجماهير. ولكن اي تحسن.؟! يدرك كل من تطأ قدماه العراق معنى هذا التحسن وماهيته.

 

خارج حدود العراق وفي المنطقة يبدو المشهد ومن الناحية الشكلية متأثراً بما حدث في العراق: ثمة تغييرات ديمقراطية تحدث في لبنان؛ انتخابات حرة باشراف هيئة مراقبين دولية سبقتها مظاهرات شارك فيها مئآت الالاف تطالب بخروج القوات السورية الاستبدادية. نجحت المظاهرات في اخراج تلك القوات ويبدو ان امريكا رسمت لنفسها دورا بطوليا في ذلك. اما في فلسطين فقد حدثت انتخابات ديمقراطية اخرى اسفرت عن انتخاب محمود عباس القومي المقرب من اليمين الامريكي. انها ديمقراطية اخرى وليدة تنجح بأثر تدخل الولايات المتحدة ونظامها العالمي الجديد بحسب اليمين العربي والعالمي. هنالك ايضا الانتخابات البلدية في السعودية ومحاولات ما يسمى الاصلاح. كما ان التغيير شمل الكويت من خلال نجاح مساعي المرأة الكويتية في كسر طوق قوى الاسلام السياسي المسيطرة على البرلمان وسمح لها بالترشيح والانتخاب فيما بدا خطوة مساواتية وتحررية مهمة للمرأة في عموم منطقة الخليج. يود جورج بوش واليمين الحاكم ان يصوروا في كل ما حدث في المنطقة من تغييرات اجتماعية بان دافعها ومسببها التدخل الامريكي العسكري المباشر وتخليص المنطقة من صدام حسين. تلك اكاذيب رخيصة.

ان الحقيقة هي في مكان اخر تماما. ان التغيير الحاصل في العراق لا ينذر حاليا الا بأسوأ العواقب لما يمكن ان يحدث في المنطقة تحت سطوة النظام العالمي الجديد لان ما يحدث حاليا من ارهاب وقتل واسع على ايدي قوى الارهاب المتبادلة امريكا والاسلام السياسي لا يعطي اي مؤشر لحدوث تقدم في وضع الجماهير للخروج من الازمة التي تعصف بالمجتمع العراقي كنتيجة مباشرة للتدخل الامريكي في العراق. ان ما يحدث في العراق لهو هزيمة للانسانية لا تشي الا بتعميق الوضع المأساوي: امنيا هنالك تدهور في الوضع الامني ازدياد المواجهات الارهابية، اقتصاديا هنالك تبعية المجتمع لاليات السوق الحرة والبنوك الدولية والشركات العالمية اللصوصية، افقار للجماهير وسرقة مكتسباتها تحت مسمى الخصخصة وزيادة ارباح البرجوازية. اجتماعيا تفكك النسيج المدني ولصق الصفات القومية والاثنية والدينية والمذهبية بالجماهير واضعاف التيارات العلمانية وتدمير اسس المجتمع المدني وصعود القوى الاسلامية الرجعية وتدهور وضع المرأة بشكل لا مثيل له في التأريخ المعاصر للعراق. بامكان الاكاذيب الغربية حول نجاح امريكا في العراق ان تقول ما تشاء ولكن الانسان في العراق يستل الحقيقة من الشارع لا من قناة السي ان ان او السي بي اس او البي بي سي. خارج العراق وفي منطقة الشرق الاوسط فان ما حدث ويحدث من تغييرات والتي تم تسليط الاضواء عليها بمكر وخداع لم يكن اصلا بتأثير امريكا او حربها المدمرة والوحشية وانما نتيجة لتصاعد النضال التحرري لشرائح واسعة من الجماهير ضد البرجوازيات المحلية الرجعية الحاكمة.

 

 ان الدليل على ذلك واضح وهو ان كل البرجوازيات التي تحكم  في المنطقة هي بالاساس ليست عدو بل حليف سياسي قديم جدا للولايات المتحدة واليمين الامريكي الحاكم وليست على تضاد مع سياسات جورج بوش اليمينية.

 

ان تطور حركة تحرر المرأة في منطقة الخليج مثلا يأتي نتيجة لتصاعد النقمة للجماهير المتمدنة ضد قوى الاسلام السياسي وانهيار تجاربه المعادية للبشرية والمقت الشديد الذي تكنه الجماهير لهذه الحركة القرووسطية المعادية للمرأة. ذلك كان الدافع الموضوعي الذي حرك جماهير النساء في الكويت ومنطقة الخليج للاحتجاج والمطالبة الملحة بالمساواة وتحقيق ابسط حقوقهن. ان من يدعي بان تلك الحركات الاعتراضية تتحرك بوازع امريكي انما يهدف الى ادامة الاوضاع على ماهي عليه بحجة ان الحرية المكتسبة بهذه الطريقة هي حرية مشبوهة و"امبريالية". هذا المنطق تستعمله الحركات الهامشية الرجعية لحرمان الجماهير من اي حرية وتأجيل كل شئ حتى خروج الامريكيين. ! اما تصاعد النقمة الجماهيرية ضد الوجود السوري في لبنان واستبداد قوات هذه البرجوازية القومية العروبية فهو العامل الذي دفع بالالاف من الشباب في لبنان الى الخروج للشوارع، وكذا الامر في فلسطين الذي تطالب جماهيره بالتغيير وانهاء هيمنة اليمين على السلطة والحداثة والتمدن وانهاء الوضع الاقتصادي المتردي واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وتطبيع الوضع وانهاء دور حركات الاسلام السياسي في فلسطين كحماس والجهاد الاسلامي وغيرها.

 

حقيقة الامر ان الولايات المتحدة ليست فقط لاعلاقة لها البتة باية حركة تحررية تجري في المنطقة بل انها في واقع الحال معادية لها بالكامل. ان مهمة امريكا الاولى هي دوما تحريك القوى الاكثر رجعية في المنطقة لخدمة مصالحها. ان التغييرات الانسانية تحدث بفعل قوى الجماهير الانسانية والتحررية وطرح بدائلها ازاء فشل البرجوازية القومية والاسلامية لاحلال بدائل اليسار والتمدن محلها وليس بدائل جورج بوش الرجعية. ان تجيير الحركات الاعتراضية للعلمانية وبشكل مقصود لصالح التدخل الامريكي يهدف الى تعزيز مشروع امريكا واظهاره بمثابة محرر للجماهير واعطاءه المصداقية. فقط قوى التحرر والمساواة والتمدن الاجتماعي بامكانها اليوم الشروع بتحقيق لمطامح الجماهير في الحقوق المدنية والفردية ومساواة المرأة بالرجل وحقوق الشباب في التمدن والحداثة وغير ذلك من الحريات المدنية. هذه القوى تنتمي واقعيا الى جهة يسار المجتمع اي الى قوى العمال والاشتراكيين والقوى الراديكالية. ان اليمين المحلي اسلامياً كان ام قوميا اوعشائريا معاد لهذه القيم كما البرجوازية العالمية بقيادة امريكا والغرب.

 

ان فلسفة وجود الرأسمالية وقواها اليوم في القرن الواحد والعشرين اصبحت فلسفة رجعية لتحالفها مع قوى الدين والقومية ولا يمكن باي شكل من الاشكال نسبة التغييرات التقدمية الا من خلال ارجاعها الى القوى صاحبة المصلحة في الدفاع عن الانسانية والتمدن. ان مشروع الولايات المتحدة ونظامها العالمي الجديد هو مشروع رجعي سافر ولن يسبب الا تزايد مأساة الملايين من البشر وانتقاص حقوقهم وحرياتهم ومساواتهم ورفاههم.  يجب على قوى التمدن والاشتراكية والعلمانية في المنطقة زيادة وتيرة نشاطها وقيادتها للاحتجاجات والاعتراضات الجماهيرية بوجه الهجمة اليمينية بزعامة امريكا والغرب. فقط بمقدور قوى اليسار والتمدن والاشتراكية والراديكالية ان تصل بحركة اعتراض الجماهير من اجل الحرية والمساواة والرفاه الى غاياتها النهائية. وفي العراق فان اخراج القوات الامريكية فورا ونزع سلاح كل القوى الرجعية من اسلامية وقومية سيفتح اوسع المجالات لقوى التمدن والانسانية بقيادة الجماهير نحو تحقيق مطالبها وانشاء مجتمع متمدن ، مساواتي، يتمتع بالحرية والرفاه.