خطاب اوباما في القاهرة

 هانتنغتون - بوش بهيئة جديدة

الجزء الثاني

 

عصام شكــري

في الجزء الاول في نقدنا لخطاب اوباما في القاهرة والذي وجهه الى ”الاسلام“ قلنا ان السؤال ليس: هل يفترض بالحضارات ان تتصارع ام تتحاور؟ وحاولنا ان نبين ان ذلك السؤال مظلل والسؤال هو: هل هناك حضارات مختلفة فعلاً ؟ وان كان هناك حضارة انسانية واحدة وليس حضارات كما يدعي اوباما فلم يطرح الامر بهذه الصيغة؟. ان جوهر الموضوع يتمحور حول ماذا كان العالم فعلا مقسم الى حضارات. وذلك بالظبط ما انطلقنا لتوضيحه منذ البداية.

 

الاجندة السياسية للبرجوازية

 

قلنا ايضا ان الطبقة البرجوازية لها اجندة سياسية لا يمكن ان تنفذ دون غطاء ايديولوجي متماسك. الرئيس الامريكي  يروج لفكرة تقسيم العالم الى حضارات من اجل تحقيق الاجندة السياسية للطبقة البرجوازية الامريكية والتي تتمحور حول اعادة مكانة امريكا الى الصدارة بعد فشلها اثناء حكم المحافظين الجدد وجورج بوش وحرب العراق واحتلاله. لا بل انه يطابق تعريف تلك الكتل المزعومة على نفس الاسس التي اعتمدها جورج بوش تماما اي الاسس الدينية ( انظر وصف جورج بوش للحرب على الارهاب بانها شبيهة بالحملة الصليبية قبل الاعتذار عن الوصف).

 

بات الان معروفا من جلب قوى الاسلام السياسي وجرها من الكهوف. جلبت امريكا والغرب الاسلام السياسي من الهوامش وقعر المجتمع وسلطته على المجتمعات التي تسميها اليوم ”العالم الاسلامي“. امريكا اتت بالخميني وببن لادن وبالظواهري وبعصابات مقتدى الصدر  وحسن نصر الله وحماس لانها ارادت في البداية خلق ”محاور الخير“ الرجعية التي تطوق الاتحاد السوفييتي ولضرب الحركة العمالية والنسوية والاشتراكية والحركات الشيوعية والعلمانية.

ان المجتمع البشري يرفض الدين الان ويريد ازاحته من على صدره. وفي الوقت الذي حققت فيه العلمانية في الغرب درجة عالية من التقدم فان العلمانية في الدول التي يسيطر عليها الاسلام السياسي قد تم سحقها بوحشية الانظمة الاسلامية نفسها وحركاتها.

 

ان الطبقة البرجوازية المعاصرة لم تعد بحاجة الى الاستعانة بالارستقراطية الرجعية او الخلافة الاسلامية لترجع الدين الى المجتمع؛ فهي نفسها اصبحت رجعية قلبا وقالبا.  ولكن ذلك سيجرنا الى موضوع اخر.

 

ان اوباما يريد ان يوحي بان الدول التي تحكمها قوى الاسلام السياسي والتي يسميها ”اسلامية“ هي دول تحكم مجتمعات انماط الانتاج فيها ما قبل رأسمالي. انه يريد ان يقول انها مجتمعات تعتمد على الزراعة او الرعي او الانتاج الحرفي وبالتالي فهي مجتمعات غير مقسمة طبقيا بل متجانسة وايمانية تسير كلها خلف ائمتها وملاليها وتمارس الصلاة دون توقف. وهاهي الثورة الايرانية الجديدة تبخر اقوال اوباما وتصيبه بالخرس !. فالجماهير الايرانية تريد قلع الجمهورية الاسلامية من جذورها!!.

 

ولكن توجيه النقد لخطاب اوباما من منطلق انه مشابه لخطاب قوى الاسلام السياسي على اعتبار ان هناك حضارة اسلامية واخرى غريبة لن يساعد على فهم منطلقات اوباما السياسية بدقة.

 

خيبة الفمسنتية العربية ومثقفو اليسار القومي من خطاب اوباما

 

ان نفد بعض القوى اليسارية ( القومية )  لباراك اوباما بسبب سرعة نكثه لوعوده للنساء في منطقة الشرق الاوسط او ”العالم الاسلامي“ بالحرية او لوم  هيلاري كلنتن على لبسها الحجاب وهي تقابل  الملوك والشيوخ يشير الى الوهم الذي تعيش فيه تلك القوى ومحاولتها تفسير الواقع من خلال مصالح طبقتها هي. لقد اعتبرت تلك القوى اصلا وخطئاً ان باراك اوباما وهيلاري كلنتن هم داخل المعسكر التقدمي، صدقت ما قالوه في استديوهات هوليوود حول التغيير وان المسألة متعلقة بارادة باراك اوباما وهيلاري كلنتن والحزب الديمقراطي بوجوهه الجديدة.

 

لقد بينا ان قرار اعادة وترسيخ الدين في المجتمع ليس قرارا بيد جورج بوش او اوباما بل هو قرار الطبقة البرجوازية بكل اجنحتها. لقد بات الدين يشكل الماهية السياسية والفكرية لتلك الطبقة والحجر الاساس الذي يساعدها في الهيمنة ؛ ليس في العراق او مصر او ايران او السعودية فحسب بل حتى في امريكا وهولندا والمانيا. وان كانت تلك المقارنة تثير السخرية لدى البعض حين يقولون ان اوربا علمانية وبالتالي فان المقارنة غير صحيحة، يكفي ان اشير الى خطاب اوباما وقبله سياسات الغرب المعروفة بالنسبية الثقافية والتي تهدف الى خنق النساء وتحويلهن الى عبيد لشيوخ الاسلام بحجة الثقافة والحضارة الاسلامية. لقد تم تعريض حياة الملايين الى خطر القتل والحرق وغسل العار وبقية الجرائم. الم تكن تلك نتيجة لسياسة الغرب المسماة النسبية الثقافية ( الكتل الحضارية التي يبشر بها باراك اوباما؟). الم الم يحاولوا السماح للملالي بتطبيق الشريعة الاسلامية في كندا وبريطانيا واطلقوا على من ينتقد الاسلام اسم الاسلاموفوب لوصمه بالعنصرية ؟ الا يروجوا لافكار اليمين الديني في قلب اوربا ضد العلمانية والقوى العمالية الاشتراكية ؟

 

ولكن قوى اليسار القومي والفمنستية العربية تريد ان ترسخ في الاذهان بان التغيير لن يأتي الا من اوباما وهيلاري كلنتن؛ التغيير بنظرهم لا يأتي الا من الاعلى. من هنا خيبة الامل بخطاب اوباما. ان القيمة السطحية لاعتبار ان الحزب الديمقراطي يمارس الخديعة وانه لم يكن صادقا في دعواته لتغيير سياسة امريكا تجاه ”العالم الاسلامي“ لم تجد لها اي مصداقية. ان القيمة الحقيقية لتلك الخيبة تتمثل في ان البرجوازية الامريكية لم تختر تلك القوى بل اختارت الجناح الاسلامي للبرجوازية. علينا ايضا ان ندرك ان تلك القوى تتصرف من وحي وضعها الطبقي وموقعها ازاء امريكا. ولكن ذلك موضوع لمقالة اخرى.

 

ان انخداع ”اليساريين“ وال“فمنستيين“ والمثقفين الاكاديميين و“القوميين العرب“ المنتظرين لتغير مكانتهم من قبل امريكا نفسها، هو الذي يوضح مواقفهم. انهم ينتظرون التغيير من الاعلى وحين لا يأتي يقولون: انظروا خدعونا !! انهم رجعيون.

 

 وبدلا من تخيلات النهار حول استضافة هؤلاء في وزارة الخارجية الامريكية كممثلين للحركة ”التقدمية ” العربية فان الهيئة السياسية الجديدة ادارت ظهرها  فوراً. اوباما في خطابه قال بوضوح لقوى الاسلام السياسي: انتم شركاءنا في رأس المال العالمي وفي حكم شعوبكم. ان الخديعة لم تكن سوى خديعة تلك القوى لنفسها. اما الجماهير الواسعة المحرومة والتي عانت من بطش وارهاب ورجعية قوى الاسلام السياسي فلم يكن لديها اي وهم مع اوباما وهيلاري كلنتن.

 

لقد قلنا مرة واخرى: لم يعد هناك برجوازية تقدمية او علمانية. ان اعتبار اي جزء من البرجوازية بانه تقدمي هو تظليل يبغي اولا ايصال ذلك الجزء الى اعتراف امريكا والغرب. ليست تلك تدليسات ايديولوجية. انها حقيقة. ومن هنا فان اي خيبة امل ستكون من حصة القوى السياسية القومية المدعية باليسار. امريكا ذهبت الى الاسلاميين بزعامة اوباما. ولكن نرجوكم عدم النحيب على وضع النساء تحت حكم الاسلام السياسي. فقط ابكوا على اوضاعكم.

 

فليسمع الاسلاميون !

 

حين تحدث اوباما عن ”انسانية“ حضارة الاسلام فانه لم يكن يقصد فن العمارة او الزخارف الخشبية الثرية او حدائق  ونوافير قرطبة او اشبيلية الرائعة. انه يشير الى ”انسانية“ خامنئي واحمدي نجاد والشيخ الظواهري والملك عبد الله وبالطبع نوري المالكي وعبد العزيز الحكيم !. فليسمع قادة الاسلام السياسيون هذا الاطراء وليفهموا جيداً. اسمعوا ايها الاسلاميين في العراق والسعودية وايران ومصر والجزائر. امريكا انارت الضوء الاخضر لكم كممثلين للطبقة البرجوازية، من الان فصاعدا سيكون الاسلام السياسي شريكا لا خصما انكم ممثلي حضارة صديقة لا عدوة !!.

 

لقد دعم الغرب في خمسينات القرن الماضي الحركات القومية العربية لتصبح ممثلة البرجوازية الرسمي في المنطقة. اليوم يقومون باحلال الاسلام السياسي محلها. هذا هو الفحوى السياسي لخطاب اوباما .

 

منابع الافلاس الايديولوجي والثقافي للبرجوازية !

 

في العام 1918 تحدث اوسفالد اشبنغلر في كتابه ”افول الغرب“  عن انهيار ما سماه يالحضارة الفاوستية. لاقت افكاره الترويج في الاوساط الغربية لانها كانت من جهة تقسم العالم الى كتل دينية وقومية، (حضارية)، ولانها من جهة اخرى روجت الافكار المعادية للاممية الاشتراكية  وافكار الحداثة ووحدة مصالح الجماهير العمالية على صعيد عالمي ضد مستغليها، تلك المبادئ التي جاءت بها ثورة اكتوبر الاشتراكية الكبرى في العم 1917 وخلقت اظطرابا فكريا كبيرا داخل معسكر البرجوازية.

 

كانت افكار اسبنغلر تلك شروطا ضرورية لاعادة تنظيم الوضع الايديولوجي للطبقة البرجوازية التي نالت ضربة المطرقة الحديدية على رأسها من ثورة اكتوبر الاشتراكية.

 

وحين حاولت الطبقة البرجوازية اعادة ترميم كيانها الايديولوجي المتداعي اثر الازمات الحادة التي اجتاحت اقتصاديات اوربا الغربية في الثمانينات وبروز الاحتجاجات الاجتماعية الكبيرة، استعانت مرة اخرى بمفكريها الاكاديميين والكتاب والمنظرين للقول بان افكار الحداثة واهمالها للفوارق القومية والاثنية ”والثقافية“ بين الجماهير وبروز المطالب المساواتية، هي حركة ”نخبوية“  وانها فشلت في الاجابة على متطلبات المجتمع  وقد آن الاوان لاستبدالها بحركة ”اكثر انسانية“. و في ورشهم الفكرية اظهروا تيار ”ما بعد الحداثة“ والتي قامت  على اساس الاختلاف الثقافي بين البشر ونسبية الثقافة. لقد خرجت ما بعد الحداثة باول ما خرجت بفكرة ” التجاورات الثقافية الرائعة”. منها برزت مسألة قدسية الثقافة بدلا من الحقوق المتساوية او الحريات او الرفاه او القضاء على الحرمان للبشر. ونتيجة لهذه الازبال الفكرية حققت البرجوازية ما كانت تريده سياسيا؛ اي الهجوم الكاسح على حقوق الملايين من العمال والنساء وعموم المجتمع بحجة ان الموديل القديم اصبح بحاجة الى تحطيم. صار المثقفون والاكاديميون يصرخون في كل زاوية: ” نعم ولكن من نحن لنقول للنساء المسلمات ماذا عليهن ان يرتدين ؟“ دعهم ينعمن بثقافتهن الاسلامية. ان الدعوة الى الحداثة واالتمدن والحقوق المتساوية للنساء هي دعوات حداثية ”نخبوية“. اما هم فلم يكونوا نخبويين بل ”واقعيين“. لقد اصبح ذلك النمط من التفكير شائعا لدرجة انه حتى الفمنستية النسوية الغربية قد وقعت تحت طائلة تلك الافكار اليمينية واليوم في اجتماعاتهن يحذرن بشدة من تدخل الشيوعيين ويرسخن فكرة ان النساء يتمتعن بحقوق متباينة لانهن ينتمين الى ثقافات مختلفة وان لهن ”الحرية في ارتداء الحجاب“!!.

 

وفي اوائل التسعينات وحين انهارت انظمة رأسمالية الدولة وانتهت الحرب الباردة كان الغرب وامريكا في امس الحاجة الى اعادة تعريف مكانتهم فكانوا بحاجة ماسة مرة اخرى الى اؤلئك الاكاديميين ومراكز ”البحوث“. ظهرت مقالات هانتنغتون وفرانسس فوكوياما وبدأت بالترويج لشكل العالم الجديد؛ عالم  الحضارات والكتل الدينية والثقافية حتى ان هانتنغتون رسم مواقع اندلاع الصدامات الحضارية على الخارطة في مناطق مثل البلقان بين المسلمين والمسيحين الارثودوكس. (فيما بعد نشبت مجازر يوغوسلافيا بين القوميين الصرب والكروات والمسلمين).

 

لقد احتاج الغرب ل”بعبع“ الاسلام السياسي واعادة استقطاب العالم ثنائيا.  احتاجوا الى انهاض الاسلام وقواه من القبور وجلبهم من الكهوف النتنة. ان مجازر العراق وافغانستان ويوغوسلافيا والصومال كانت اجزاء لذلك المخطط الذي سماه المحافظون الجدد: النظام العالمي الجديد.

 

يدخل العالم اليوم مرحلة جديدة غير مستقرة تماما مليئة بازمات البرجوازية الاقتصادية والسياسية والفكرية. باراك اوباما اراد بخطابه الخروج بمخطط انقاذي لامريكا والغرب والاسلام السياسي معا.

 

حرب العراق:فشل ام خطأ ؟

 

نصبت امريكا بعد سنوات من التدمير والقتل وتحويل المجتمع في العراق الى ساحة قتال بين القوى والمجاميع والميليشيات الدينية والقومية والعشائرية: الاسلام السياسي الشيعي ومجاميعه، الاسلام السياسي السني ومجاميعه، العشائر ورؤسائهم، القوميون الكرد ، مايسمى الاقليات المسيحية واليزيدية والصابئية وغيرها. قالوا ان تلك ديمقراطية وانها النموذج الزاهر للحرية. 

 

باراك اوباما لم يقل ان امريكا فشلت في سياساتها بل قال ان حرب امريكا على العراق كانت خطاً. ان الخطأ يعني ان بامكان امريكا اصلاح الخطأ .

 

اما الفشل فهو حكم قاطع على هزيمة النظام العالمي الجديد. امريكا فشلت في العراق ولم تخطأ. لقد تطلب ادامة سياسة امريكا ونظامها العسكريتاري غزو العراق وتدميره وبالتالي لم يكن هناك ثمة خطأ في حسابات البرجوازية الامريكية.

 

ولكن رغم ذلك فان اوباما اليوم يريد ان يرسم سياسة جديدة قائمة على التحاور والمفاوضات مع الاسلام السياسي والاعتراف بهم كقوى شرعية. انه يؤكد على انسحاب امريكا من العراق في حلول العام 2010 وتسليمه السلطة كليا الى الحكومة الاسلامية القومية والتي يشك المواطنون في العراق بقدرتها حتى على البقاء على قيد الحياة ناهيك عن نشاطها ونجاحها فيما يسمونه ”الحفاظ على الامن“ او انهاء الارهاب.

 

ان توفر اجواء اكثر امانا وانهاء حالة الاقتتال والصراع بين قطب ارهاب دولة امريكا و قطب ارهاب الاسلام السياسي هو في صالح الجماهير. الا ان الاوضاع السياسية والاجتماعية ستظل غير مستقرة وان شروط احتمالات انهيار تلك الاوضاع مازالت قائمة. فالتقسيم الديني والطائفي والقومي للمجتمع باق، ومسألة الدولة غير محلولة، والثورة في ايران تفتح الف باب على احتمالات التغيير وصعود الحركة العمالية والاشتراكية والعلمانية سيطيح بخطط اوباما وحلفاءه الاسلاميين الجدد وربما يؤسس لمستقبل اخر ليس في حسبانهم.

 

ان حركة الشيوعية العمالية في العراق والمنطقة هي جزء من القوى التي لا يأخذها اوباما بنظر الاعتبار ولكنها ستفاجأه يوما ما في العراق تماما كما اذهلته اليوم في ايران وقلبت حساباته وحسابات البرجوازية العالمية.