بصدد الاتفاقية

”الامنية“

عصام شكـــــري

ishukri@gmail.com

 

 ما يسمى الاتفاقية الامنية في العراق او التسمية الاكثر سخرية    ”اعلان مبادئ التعاون والصداقة بين الولايات المتحدة والعراق“ هي اتفاقية معادية لمصلحة الجماهير الغفيرة في العراق وخاصة الطبقة العاملة. ليست بسبب كونها معاهدة ”امبريالية “، او كونها انتهاك لسيادة مزعومة، بل لاسباب تتعلق بمجمل النظام الذي فرضته امريكا على العالم وكان العراق هو ساحة نزاله الكبرى ونموذجه الكارثي الصارخ. انها اتفاق سياسي  يهدف الى ادامة نظام امريكا في العراق.انها اتفاق رجعي ومعادي للجماهير بكل الابعاد؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

اقتصاديا، تنوي المعاهدة سلب حقوق الجماهير في العراق ومواجهتها منفردة (دون حماية الدولة) مع الرأسمال العالمي. انها تريد ان تسلب من الجماهير كل الحقوق التي ناضلت عقود طويلة من اجل تثبيتها وفرضها على الطبقة البرجوازية، على علات تلك المكتسبات وشحتها. انها تريد ان تغير قوانين العمل من اجل تشديد قبضة الطبقة المالكة على الملايين من العمال والكادحين واخضاع حياتها ومعيشتها لجبروت رأس المال العالمي ومؤسساته الاخطبوطية وجيوشها ولارادة الشركات الكبرى مباشرة عن طريق تقليص دور الدولة الى الحدود الدنيا من خلال عمليات الخصخصة واسعة النطاق وباشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وعن طريق تشريعات منظمة الجات - التجارة العالمية. وبالقدر الذي تبدو فيه عبارة ”الصداقة والتعاون“ حقيرة لانها تسخر من الام الناس ومئات الاف القتلى والمهجرين، بالقدر الذي تصور الاتفاقية  فيه على انها مجرد بقاء امني للقوات الامريكية داخل العراق هو تصوير مظلل وغير حقيقي.

ومن الناحية الامنية فان اول ما يقال هو ان امريكا هي التي سبب انهيار الامن والطمأنينة للملايين من الجماهير العزلاء. من ارسل مئات الطائرات والدبابات والمدفعية ورمى مئات الالاف من الاطنان من القنابل والمتفجرات على المدن والقرى والحقول في العراق (اكثر مما رمى خلال 4 سنوات في الحرب العالمية الثانية تم رميه على العراق بشهر ونصف)؟ امريكا وبريطانيا وحكومات الغرب هي التي ضربت امن الجماهير في العراق بعرض الحائط وعرضت حياة وامان وطمأنينة الملايين من البشر الى خطر الموت والفناء تحت الركام والقنابل. وهي التي اطلقت العنان للميليشيات والعصابات الاسلامية والقومية الرجعية  لتتسلط على حياة الناس وتسلب الامن من المجتمع وحولت المجتمع الى ساحة للنزال بين قطبها الارهابي وبين قطب ارهاب الاسلام السياسي. هل يجرأ احد منهم على تسمية الحكومة الامريكية والغرب بحماة الامن في العراق؟ لقد قتل مليون انسان مدني خلال الحرب وقبله قتل مليون ونصف بالحصار الاقتصادي ، دون ذنب.

ان انهيار النظام لا يعني انهيار شخوصه فحسب بل انهيار بنيته السياسية والاجتماعية؛ فانهيار نظام امريكا في العراق يعني انهاء نظام تقسيم المجتمع على اسس الدين والطائفة والعرق والقومية وتأجيج الصراعات الرجعية، كما ان الحفاظ عليه يتطلب حمايته من هجمة الطبقة العاملة وقواها الاشتراكية وقلبه. من هنا تجئ الاتفاقية لتدعم نموذج النظام الرجعي الذي انشأته امريكا. ان امريكا تبغي استمرار وجود نموذجها القائم على الدين والطائفية والعشائرية والقومية بل وازدهاره ليتم تعميمه على العالم !!.

 من هنا نقول ان الاتفاقية تمتلك خصائص النظام العالمي الجديد اليوم، وليس مرحلة الحرب الباردة. ومن جهة اخرى فان الاتفاقية ليست اتفاقية استعمارية او امبريالية كما حدث في فترة الانتداب البريطاني للعراق في العشرينات من القرن الماضي. ان المعاهدة لا تتعلق باقتصاد (او بترول) منهوب او بلد مستباح او سيادة قومية منتهكة بل تتعلق بنظام شامل تم صنعه وتقديمه على انه نموذج للديمقراطية وحقوق الانسان والحرية والعصر الامريكي. نموذج جاهز للتصدير. هذا النظام قائم على السلب والنهب ولكن ايضا على التفتيت والشرذمة وتحطيم المجتمع المدني وتقسيمه على اسس دينية وطائفية وقومية وعشائرية.

فليس فقط حياة ورفاه العمال والكادحين والملايين من الجماهير المعدمة والمحرومة ستدفع اكثر باتجاه الفقر والجوع والحرمان وانعدام السكن وانهيار الخدمات الصحية والاستشفائية والتقاعدية وربط الاسعار كليا بتقلبات السوق العالمية والعرض والطلب ودورات الركود الاقتصادي والطرد للعمال وانخفاض الدخول الى الحدود الدنيا وضرب دور الدولة بالكامل في توفير حماية  المواطن، من خلال نظام القروض وتحديد فروع الانتاج القابلة للاستثمار ونسب الفائدة ووو ، بل تمزيق المجتمع في العراق الى كيانات ”حضارية“ ودينية وطائفية وقومية واثنية وعشائرية هو جزء اساسي وجوهري لا يتجزأ من الاتفاقية. ان فرض الرجعية والتراجع على حقوق الانسان والمواطنين وفرض الاسلام والشريعة وتحقير المرأة وتحويل الدستور الى ايقونة مقدسة لا يمكن مسها لانه يحمي مصالح الاسلاميين والقوميين من قوى السيناريو الاسود الذين جلبتهم امريكا ونصبتهم في السلطة بانتخابات ممسرحة، وترسيخ صيغة الحكومة الفدرالية الرجعية التي تمنح تقسيم المجتمع الى ”كيانات“ دينية وطائفية وقومية شرعية ابدية، وتسلب حقوق المواطنين كافراد ، جزءا لا يتجزأ من اهداف الاتفاقية الرجعية.

 من هنا لا يمكن اعتبار ان هدف الامريكيين من هذه الاتفاقية هو مجرد تحقيق مكاسب اقتصادية ، بالرغم من صحة ذلك، بالقدر نفسه الذي يمكن فيه اعتبارها مجرد وثيقة لحماية امن الاسلاميين والقوميين من اطراف السيناريو الاسود هو افتراض منقوص. انها تبغي حماية وضمان وجود كامل النظام الذي افرز هذه الاوضاع وادامته اي حتى بعد تقليص القوات او ربما سحبها من العراق.

 ان منتقدي الاتفاقية كثر. فهنالك قوى برجوازية تقوم بنقد الاتفاقية من منطلق  معاداة ”الامبريالية“ او اخضاع العراق مجددا ”للانتداب الاستعماري“ او غير ذلك. ان ذلك هو منطلق قوى الاسلام السياسي المعادية لامريكا من قبيل ميليشيات مقتدى الصدر وجبهة التوافق  والحزب الاسلامي العراقي وممثليهم فيما يسمى البرلمان. تلك القوى تستخدم شعار ”تسقط الامبريالية الامريكية“ وتهدف منه تحشيد الجماهير خلفها، لا لانقاذها من تلك الامبريالية ومن اثار نظامها الرجعي الاسلامي والطائفي والقومي، بل من اجل الصعود على نقمة الجماهير من سياسات امريكا والغرب وتحقيق اهدافهم السياسية الرجعية. قام الخميني بنفس التاكتيك السياسي اواخر السبعينات ورفع شعار ”الشيطان الاكبر“ و“الموت لامريكا“ واستولى على السفارة الامريكية بعد استيلاءه على الثورة الايرانية لا لانه كان يريد مناهضة المشاريع الاقتصادية للغرب بل لانه عرف ان مناهضة الغرب سياسيا هي مفتاح التعبئة للشارع الايراني الذي كان معاديا لامريكا بقوة.

ان قوى الاسلام السياسي الرجعية من مقتدى الصدر وحارث الضاري والمطلك والهاشمي وجبهة التوافق والحزب الاسلامي والشراذم الاخرى التي تعادي تلك الاتفاقية لا يهمها مصلحة الجماهير بل يهمها التسلق على معاداة الجماهير لتلك الاتفاقية وتنفيذ برامجها السياسية. يجب الحذر من الانسياق وراء هذه القوى الرجعية والارهابية.

ان الانسياق وراء الاسلام السياسي والقوى القومية المعادية لامريكا  الناقدة لتلك الاتفاقية سيؤدي الى تقوية تلك القوى. ان تلك القوى لا بديل لها سوى الاسلام والرجعية والطائفية والارهاب وقمع المرأة. ان نماذجها ماثلة، من حكم الطالبان في افغانستان، الى حركة حماس في غزة ونظام الجمهورية الاسلامية في ايران. ما وضع الجماهير في تلك المناطق؛ فقر وجوع وضياع حقوق وانعدام مساواة ورجعية وشريعة اسلامية وارهاب. يجب عدم منح الاسلاميين اي فرصة في العراق وبالتالي فرض قوانينهم الاسلامية والقومية الرجعية على المجتمع.

 من جهة اخرى ، فان القوميين العرب ينتقدون الاتفاقية من منطلق ”ألتراب الوطني“ و“الاستقلال“ والمس ”بسيادة العراق“ وغيرها. ان النقد ساخر لان العراق محتل من شماله الى جنوبه. والامر لا يحتاج الى اتفاقية لكي يعلو الصراخ حول المس بالسيادة الوطنية. ولكنهم في الواقع يقولون ذلك للترويج للبرجوازية القومية والمحلية التي فقدت مواقعها. ان المس بسيادة العراق هو في الحقيقة مس بسيادة الطبقة البرجوازية المحلية وسلبها حصتها من الارباح.!

  ان حزبنا وهو يناضل ضد هذه الاتفاقية الرجعية بكل الابعاد فانه يعلن للجماهير انه يعادي ويقف على طرفي نقيض ليس فقط مع قطب ارهاب امريكا والغرب ولكن ضد قطب ارهاب الاسلام السياسي والقوى الرجعية القومية بكل الوانها واشكالها وضد النظام الذي جلبته للعراق والعالم وتحاول تعميمه. يجب نقد هذه الاتفاقية الرجعية من هذا المنطلق، منطلق حقوق ومساواة ورفاه ومدنية الجماهير العمالية والنساء. ادعو الجماهيرللالتفاف حول حزبنا من اجل تقويته وتحويله الى قوة اجتماعية وسياسية بامكانها تحقيق التغيير الاجتماعي وضمان اوسع اشكال الحرية والمساواة الكاملة والانسانية في المجتمع.