ملتن فريدمان

وسقوط عقيدة الســوق الحرة

 

عصام شكــــري

ishukri@gmail.com

 

 

حينما انهار جدار برلين ظهر الكتاب والمفكرون من الطبقة البرجوازية ليقولوا بان انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي المسمى خطئاً بالاشتراكي هو انتصار شامل وساحق لاقتصاد السوق وعقيدة السوق الحرة في الاقتصاد السياسي البرجوازي. وربطوا انتصار السوق بالديمقراطية والحرية في محاولة تهدف الى القول ان انتصار السوق هو انتصار حرية الجماهير على استبداد الدولة.

 

ولكن انتصار الحرية كانت كذبة ذات هدف ايديولوجي وهو الاعلان عن سحق الرأسمالية للاعتراض العمالي والجماهيري؛ اعلان موت الطبقة العاملة والشيوعية. كان انهيار رأسمالية الدولة امام رأسمالية السوق هو الحقيقة الباردة التي لم يقولوها؛ انهيار جزء من الرأسمالية امام جزء اخر اكثر قدرة. لم يكن ثمة انهيار للشيوعية او للعامل او لاحتجاجات البشر او ايقاف لعجلة التاريخ كما اشاعوا وروجوا. لم يوضح احد تلك الحقيقة الا تيار الشيوعية العمالية.

 

لقد كانت التطبيقات الاقتصادية في العالم الرأسمالي كله تتمحور حول تجربتين: تجربة سيطرة السوق وتجربة سيطرة الدولة. كل ما كان يطرح ايام الحرب الباردة من نماذج قد تمحور بشكل او باخر حول تلكم النظريتين الرأسماليتين.

 

من جهة كان هناك نموذج الاقتصاد الذي تسيطر عليه الدولة بشكل كامل؛ عمليات الانتاج والتوزيع والتسويق والتخطيط الاقتصادي كلها بيد الدولة. ولكن في نفس الوقت كانت هناك تجارب اخرى لدول ذات اقتصاد ”مختلط“ تجمع فيه راسمالية الدولة بالسوق الحرة او مايسمى القطاع العام والخاص. هناك العديد من الامثلة على تلك النماذج من الاقتصادات ومنها الصين واوربا وخاصة الدول الاسكندنافية والعالم الثالث وغيرها وبدرجات متباينة. وظهرت اثرها مايسمى بدولة الرفاه الاجتماعي لان الدولة استطاعت ان توفر للمواطنين الاحتياجات العامة الاساسية كالتعليم والصحة المجانية والرخيصة والخدمات البلدية والسكن العام الجيد والشوارع المضاءه والنظافة العامة ووسائل الرفاه كالمناطق الخضراء والباركات والساحات الرياضية وملاعب الاطفال المجهزة والامينة وغيرها.

وفي الجانب الاخر استمر بروز النظريات  التي حاربت تدخل الدولة في تسيير الاقتصاد وتوفير الخدمات الاجتماعية بل وفي زيادة الضرائب على الطبقة العاملة وتقليلها على الرأسماليين. وكانت النظريات التي روجها الامريكي ملتن فريدمان من مدرسة شيكاغو لاقتصادية من اكثر تلك النظريات تأثيراً

لقد صاغ فريدمان افكاره داخل مدرسة شيكاغو وملخصها الترويج لسياسة تقليل دور الدولة في التدخل في الاقتصاد واطلاق اليات السوق الحرة لتوازن عمليات الانتاج. وقد حارب فريدمان الذي روج لنظرية ”التحريرية“ الاقتصادية بشدة النظرية الكينزية والتي اسست على فكرة مفادها امكانية وضرورة تدخل الدولة في تحفيز النمو الاقتصادي وتوفير الاستقرار في القطاع الخاص من خلال القيام بمشاريع انمائية وتطبيق سياسة ضريبية صارمة.  واثناء حكم ماركريت ثاتشر ورونالد ريغان في امريكا في فترة الثمانينات تم تطبيق نظرية مدرسة شيكاغو و فريدمان. وقد حاول ريغان ضرب دور الدولة والغاء فرض الضرائب على الرأسماليين من اصحاب الدخول العالية وتقليل المشاريع الانمائية للدولة وسلب دعم الدولة للخدمات العامة والاستشفاء وقروض التعليم والصحة والتقاعد ومختلف الضمانات الاجتماعية.

بعد ريغان وثاتشر انتهت مرحلة الحرب الباردة بسقوط المعسكر الشرقي ومعه سقطت نظرية تدخل الدولة واثبتت فشلها وعدم قدرتها على الاستمرار والمنافسة مع اقتصاد السوق ومن هنا جاء اعلان الفوز الساحق لعقيدة السوق الحرة لفريدمان ومدرسة شيكاغو الاقتصادية و“المحافظين الجدد“ الذي ذاق العالم علقم حلولهم ومرارة سياساتهم المدمرة والوحشية المعادية للجماهير.

 ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي وتجربة الدولة التي تسيطر على حركة الرأسمال والسوق، فان المحافظين الجدد قد اعلنوا الانتصار الشامل لنظريات ملتن فريدمان وعقيدة السوق الحرة ولكن .... لغاية انهيار وول ستريت قبل ايام قليلة.

 

لقد اثبت الانهيار المالي الهائل لوول ستريت في نيويورك ومعه انهيار الشركات العملاقة في كل مكان وبدء اجراءات الدعم والكفالة  من قبل الدول للبنوك، ان النظام الراسمالي اليوم لم يعد لديه اي طريق اخر. كل الطرق اصبحت مغلقة ومسدودة. انهارت نظرية كينز وتدخل الدولة قبل حوالي 17  او عشرين سنة بسقوط الاتحاد السوفييتي و“انفتاح الصين“ وتم تبني اقتصاديات السوق الحرة في كل انحاء العالم بما فيها روسيا واوربا الشرقية واليوم فان ذلك النموذج ينهار هو الاخر دون ان تستطيع الانظمة الرأسمالية ان تجد في تدخل الدولة اي امكانية جديدة حقيقية للحل. فدور الدولة في الاقتصاد قد انتهى تاريخيا ولم يعد هناك امكانية لارجاع عقارب الساعة للوراء لاسباب لا مجال لشرحها هنا. اذن ، انهارت عقيدة ملتن ومدرسة شيكاغو وانهارت قبلها نظرية كينز وليس ثمة حل اخر.

 

اليوم، تبدو الرأسمالية وقد حشرت في مأزق حاد وبلا افاق وان اصلاحها لم يعد مجدياً وممكنا، وفي نفس الوقت فان الثورة الاجتماعية واحلال الاشتراكية محل هذا النظام تبدو الخيار الوحيد المتاح امام البشرية لانهاء البربرية. ونباء مجتمع انساني حر ومرفه.