دفاعاً عن حق حرية التعبير والعلمانية
حول التظاهرات المناهضة للرسوم الكاريكاتورية
 

عصام شكــري

 
مظاهرات صاخبة، صراخ هستيري، حرق وتحطيم اسيجة، هجوم على ابنية وحرق ممتلكات عامة ودبلوماسية، رشق حجارة وحرق سيارات وباصات، رفع لافتات دموية تهدد بقطع الرؤوس وتفجيرات اخرى (7-7في لندن) و 9-11 (في نيويورك).
 
تلك بعض مشاهد لما يسمى "احتجاجات" على رسوم ساخرة تصور نبي الاسلام نشرت قبل عدة شهور وتحديدا في 30 ايلول 2005 في صحيفة جيلاند بوستن ولم يصدر حينها أي تعليق. الا ان التظاهرات اجتاحت العالم في شباط 2006  حين اشعل مشايخ وملالي منظمة المؤتمر الاسلامي وقادة الدول التي يحكمها الاسلام فتيل الازمة. حين ادركت حركة الاسلام السياسي ان لا علاقة للرسوم الكاريكاتورية بشخصية مقدسة الا شكليا (والا لما انتظر احد للاحتجاج كل تلك الفترة)، بل بايديولوجية تلك الحركة تحديداً.
 
الرسوم الساخرة نقد لحركة سياسية
 
لم تكن الرسوم الكاريكاتورية موجهة لما يمس مشاعر احد بل لفكر حركة الاسلام السياسي. تلك الحركة السياسية (التي استولت على السلطة في عدد من دول الشرق الاوسط) والتي قامت ولعقود من الزمن ليس فقط بالسخرية واهانة  مايسمى بالرموز الدينية والمدنية لفئآت لا تدين بالاسلام بل مارست افظع الجرائم ضد المسلمين من "مذاهب مخالفة" ومعتنقي العقائد الدينية الاخرى والكتاب التحرريين والملحدين والشيوعيين والنساء المتحررات والعلمانيين المنادين بفصل الدين عن الدولة لا بل راحت سيوفهم تقطع اوصال مواطنين ومدنيين لا علاقة لهم بالسياسية او العمل السياسي. الرسوم التي ثارت ثائرة الاسلاميين ضدها تنتقد بطريقة ساخرة الافكار المحورية في حركة الاسلام السياسي؛ مثل الجهاد وقتل الكفار، مكانة المرأة الدونية في المجتمع وحوريات الجنة - ثواب من يقتل المشركين و"الشهادة" وعقاب الاخر وغيرها. تلك الافكار جزء من المنظومة الفكرية لحركة سياسية مشخصة اليوم وليس قبل الاف السنين. نقدها هو نقد سياسي. ان ما تم مهاجمته في الرسوم هي تلك المنظومة الفكرية؛ ايديولوجيا حركة رجعية وارهابية ومعادية للانسانية هي حركة الاسلام السياسي. بهذا الفهم يمكننا ادراك جانبي الظاهرة التي تبدو في شكلها الخارجي غريبة او شاذة وغير قابلة للفهم؛ النقد المجسد في الرسوم الكاريكاتورية والحركة الهوجاء المفتعلة التي جيرها الاسلام السياسي اعتراضا عنيفا وهمجيا على تلك الرسوم. كما اننا من خلال ادراك الصراع السياسي الجاري في المجتمع بامكاننا النظر الى تلك الاحداث بمنظور مادي بعيد عن الاكاذيب والتزييف والدعاية الاعلامية الرخيصة للبرجوازية بشقيها الاسلامي والغربي.
 
من الواضح ان حركة الاسلام السياسي (سواء كسلطة- ايران والعراق والسعودية، او كحركة معارضة للسلطة - تركيا ولبنان ومصر، او كمافيا مسيطرة على ما يسمى الجاليات الشرق اوسطية - دول الغرب وامريكا) هو الذي قام بتنظيم تلك المظاهرات. لم يهدف الاسلام السياسي الى الدفاع عن "مقدسات" الجماهير لانه اساسا لا يابه بالجماهير. لقد داست تلك الحركة على اقدس مقدسات الانسان من خلال ذبح الالاف من الابرياء وبلا ادنى رحمة او شفقة ونكلوا بكل ماهو انساني وتحرري ومختلف ولم يأبهوا لا لاطفال ولا لنساء او لشيوخ او لمدنيين.
 
تظاهرات الاسلام السياسي كانت استجماع لقوى تلك الحركة لتحقيق عدد من الاهداف اولها؛ اعادة اللحمة الى حركة الاسلام السياسي المشتتة والمكروهة من قبل الجماهير، وثانيهما وفي الوقت نفسه التلويح بارهابها تجاه الجماهير من اجل بث الرعب بين صفوفها وتحذيرها؛ وثالثهما كرسالة للغرب، أي لسلطات امريكا و اوربا الغربية تحديدا بان حركتهم تسيطر على الشارع، وبالتالي هي مؤهلة لتكون البديل البرجوازي المحلي للسيطرة على السلطة السياسية. ان شيوخ وقادة الاسلام السياسي يعرفون جيدا بان برجوازية الغرب تصغي جيداً لمن يستطيع ان يوفر لهم شروط تمثيل مصالح الغرب في مجتمعاتهم؛ اي حركة رجعية مستبدة معادية للتحرر وللعمال والاشتراكية. بعبارة اخرى حركة تمثل البرجوازية المقتدرة على ادامة حكم الرأسمالية ومنع صعود نفوذ الحركة الاشتراكية الثورية. ان المظاهرات الاسلامية رسالة حية الى البرجوازية الغربية مفادها: اعترفوا بنا كسلطة قادرة على ممارسة القمع بدلا عنكم.
 
حق حرية التعبير: هل من موضوع ، توقيت مناسب؟
 
حق حرية التعبير مكتسب المجتمع المدني لافراده. لكل فرد في المجتمع الحق في التعبير عن رأيه ومعتقداته دون ان تتدخل الدولة او أي جهة اخرى لقمع او اسكات هذا الرأي باي حجة من الحجج. ولو تساهل العلمانيون والمدافعون عن المجتمع المدني وحرية التعبير في ذلك فمن الضامن اذن في ان الدولة وجهازها القمعي (وكما هي الحال في الدول التي يحكم فيها الاسلام السياسي) ستقوم بالتدخل في كل شئ بحجة ان في ذلك مساً بامن الدولة او المجتمع وتستعمله مبرراً لممارسة القمع وفتح السجون والتنكيل بافراد المجتمع وخاصة اؤلئك الذين يختلفون مع ايديولوجية الدولة (الاسلام)؟!. ان حق التعبير عن الرأي لا يمكن المساس به وعلى ذلك ليس لحق شيوخ الاسلام السياسي وملاليه الطلب من المجتمعات الغربية تقديم الاعتذار ناهيك عن طلب منعه او تحديده او تحجيمه. انهم يهدفون الى المس بحرية التعبير كحق راسخ من حقوق الانسان الاساسية لكي يبرروا قمعهم لمجتمعاتهم  وارهابهم المستمر لمعارضيهم.
 
وخارج اطر الاهداف السياسية للكاريكاتور ورد الاسلاميين عليه يبرز السؤال؛ لم انتقدت الصحيفة الدانماركية الاسلام السياسي الان؟ لم استثارت مشاعر هؤلاء الان ومن المستفيد؟ او انه (كما يقول البعض) يبغي دق اسفين في صفوف الجماهير وازاحة بوصلة المجتمع الى اليمين وابعاد الجماهير عما يسمى (عدوها الحقيقي)؟!. السؤال نفسه خاطئ. بامكانك ان تسأل السؤال نفسه في أي وقت دون ان تكون مخطئاً بالضرورة. بامكانك ان تسأل عن جدوى ان ينتقد سلامة موسى الحجاب في مصر قبل ثمانين عاما في الوقت الذي كان من المفترض فيه ان يتحدث عن الاحتلال البريطاني لمصر! بامكانك ان تسأل عن جدوى انتقاد سلمان رشدي لحديث الغرانيق الوارد في رواية "آيات شيطانية" وتأليفه لرواية ادبية ساخرة حول ذلك (رد عليه الخميني بفتوى قتل وبجائزة مالية للقاتل!) في الوقت الذي كان الاحرى برشدي ان يتحدث عن الاعتداءات الاسرائيلية على الفلسطينيين او أي شأن اخر "مناسب". وبامكانك ايضا ان ترجم فويرباخ لانه نقد الدين وفضحه في كتابه "جوهر المسيحية" في عام 1841 وقت ارتفاع عقيرة الرجعية والاستبداد السياسي في المانيا. بل وبامكانك ان تعاتب كوبرنيكوس عن نظريته حول دوران الارض والشمس او نظرية برونو عن الحدود اللامنتهية للكون ( حكمت عليه الكنسية بالموت حرقاً عام 1600) او غاليليو ( حكمت عليه الكنيسة بالسجن مؤبدا بعد 33 سنة) في وقت كفرت فيه الكنيسة "آراء" اؤلئك وقالت بانها مس بمشاعر المؤمنين !! الحقيقة ان اؤلئك لم يمسوا الا "مقدسات" الكنيسة وكسروا هيبتها. وهنا اسأل: متى يا ترى  يأزف وقت ممارسة حرية التعبير في نظر المنتقدين؟! ارجو تبيانها للناس (كما تحدد اوقات الصلاة) حتى يلتزموا بها؟!. ان السؤال حول مشروعية الانتقاد او وقته او توفر الظروف المناسبة له مرفوض كما هو مرفوض وضع الحدود على الحرية. بامكان من لا يعجبه رأي ما ان يرد وباساليب مدنية يكفلها المجتمع المدني. اهذا عجيب ام مستحيل؟. الرسم يواجه برسم والمقال بمقال والكتاب بكتاب والنظرية بنظرية والمقالة بمقالة والرسم الكاريكاتوري باخر. اليست تلك وسائل المجتمع المدني؟ ام انهم ينوون ارجاع المجتمع القهقرى الى البربرية؟؟. ان مواجهة الكاريكاتور بالارهاب والتهديد بقطع الرؤوس والتفجيرات (وقتل الكفار والمشركين) ومن ثم الحديث عن "حدود" لحرية التعبير (وكأن لهؤلاء المحتجين رابط ما بحرية التعبير ناهيك عن "حدودها") فان ذلك مثير للسخرية حقاً. ليس لحرية التعبير من موضوع او توقيت مناسب، والا لما كانت لتدعى حرية تعبير.
 
الافكار - الايديولوجيا ليست مقدسة
 
ولكن حركة الاسلام السياسي تود من خلال الادعاء بمس "مقدسات الجماهير" مهاجمة حقوق الناس مباشرة ودون مواربة ومنها حرية الانسان في التعبيرعن ارائه وافكاره. ومن خلال ذلك تود القضاء على الحرية كلها. لا علاقة بالامر لكون هذا الحق يمس اراء الانسان ومعتقداته او يمس العائلة او الملكية الخاصة او الدولة او الدين اوما يسمى بالمقدس عموما (انظر كتاب انجلز: اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة). ان حرية التعبير تشمل حرية الانسان في نقد كل الظواهر والا ما سميت حرية تعبير. الملايين من البشر لهم تصورات متباينة عن الظواهر والاحداث والمفاهيم. وما هو مقدس وغير مقدس يتعرض يوميا في المجتمع الى مختلف اشكال النقد اللاذع في الشارع والمقهي والباص واماكن العمل والمنازل وبملايين العبارات التي لا يضاهيها سخرية ووقاحة وجرأة أي رسم كاريكاتوري. الناس يعرفون جيدا ما يدعي الاسلاميون انه مقدس ويمس الجماهير. الجماهير تدرك سخافة هذا الادعاء لانها تمارسه يوميا وخاصة حين تجد كرامتها مهانة وحياتها مرة وبائسة وهي تتعرض للاظطهاد الطبقي يوميا (الفقر المدقع والحرمان) والاظطهاد الجنسي (النساء والفتيات) والعرقي والقومي والاثني ( تقسيم البشر على اسس قومية) من قبل قوى البرجوازية وبدعم قوى الدين ومشايخه التي تضغط بلا رحمة على حياة الملايين من العمال والكادحين والنساء. ان التعرض للدين نفسه كانت ومازالت ممارسة يومية تقوم بها نفس تلك الجماهير التي يدعون انها "تحتج".  لم تلحق الرسوم الاذى بمشاعر الناس او المؤمنين بل بايديولوجية حركتهم السياسية، اي حركة الاسلام السياسي. ولكن لا ايديولوجية مقدسة. كل الافكار مفتوحة للنقاش امام الجميع وغير مقدسة.
 
جبهة للهجوم على العلمانية وحرية التعبير
 
ألاسلام السياسي والمعتذرين له والرجعيون يرسمون حدودا لحرية التعبير ويقولون ان النقد يجب ان يتوقف عند حدود معينة. ولو ان السلطة كانت بيدهم كما في ايران والسعودية فانهم سيجعلون من انعدام الحرية معيارا لحكمهم. كل شئ سيصبح حينها مساً بمقدس ما؛ من الرسم والنحت الى الموسيقى والشعر وقيادة النساء للسيارات وحتى كروية الارض. يبرز المقدس للاسلاميين فقط عندما يكون متعلقا بانتقاد تيارهم الاجتماعي وحركتهم السياسية ويضرب اسسهم الايديولوجية. ولكن حرية نقد التحرر الاجتماعي والعلمانية والشيوعية والماركسية والمدنية لا حدود لها عندهم. لماذا؟ لان الاخيرة تفضح مصالحهم الطبقية. ان الاسلاميين يريدون حرية تعبير مفصلة على مزاجهم، حرية لا تنتقد الايديولوجيا الدينية. ان وضع أي حد لحرية التعبير ستجعل منه عديم المعنى. فالملايين من البشر يحملون الافكار والانتقادات والملاحظات والاراء المتنوعة والمتباينة حول الدين والعقيدة والحياة والفلسفة والفن والعلاقات وكل ظاهرة اجتماعية وسياسية وطبيعية. انهم يتباينون في مفاهيمهم حول الوطن والقومية والدولة والطبقات واصل الكون والبرلمان والاسراء والمعراج ونظرية دارون وبدء الحياة وغيرها. ان وضع الحدود على حرية التعبير سيعني ان لا احد من هؤلاء سيتمتع باي حرية لقول أي شئ.  أي رأي حسب قولهم سيمثل "مسا" بمشاعر احدهم. ولكن هذا بالضبط مغزى حرية التعبير؛ ان تقول رأيك بلا خوف وتسمع رأي الاخر.
 
البرجوازية رجعية وانتهازية !
 
ان من المفهوم جدا ان تنبري البرجوازية العالمية منها والمحلية بساستها وبرلماناتها واعلامها وصحافتها وفضائياتها بطلبات الاعتذار المجانية للاسلاميين نيابة عن الصحيفة الدنماركية بحجة مس " المقدسات". ان البرجوازية اليوم تقف سافرة ضد حرية التعبير وتطالب بتقنينها وتحديدها وتشذيبها ولوي عنقها لتلائم مصالح اصحابهم برجوازيي ما يسمونه " العالم الاسلامي". هل خطر ببال البرجوازية ان تعتذر لنساء تلك المجتمعات عن الرجم حتى الموت لانها تمادت واقامت علاقة خارج مؤسسة الزواج كما في الغرب؟ او اللواتي جلدن بالسياط لانهن تجرأن ولبسن زيا لم ترض عنه سلطات الاسلام السياسي في افغانستان او السعودية؟ هل خطر ببال احد من الطبقة البرجوازية ان يعتذر لاهالي الالاف من الضحايا الابرياء عن الاجرام الذي مارسته حركة الاسلام السياسي (وبدعم امريكا والغرب المباشر ايام الحرب الباردة) تجاههم في العراق والجزائر ومصر والباكستان ومدريد ونيويورك ولندن وبالي؟. البرجوازية اليوم تقف عاجزة عن الدفاع عن العلمانية والتمدن وتنافق قوى الدين والرجعية في المجتمع ضد الملايين من الجماهير التحررية المتعطشة للحرية.
 
الاشتراكيون قطب الدفاع عن حرية التعبير والعلمانية والتمدن
 
ولكن الناس تود مجتمعا لا يسوده الارهاب (الجسدي والفكري) بل المدنية والتحضر. الجماهير تود مجتمعا حرا يسوده احترام الانسان وحريته في التعبير عن رأيه وترتفع فيه رايات الانسانية والتمدن. الاشتراكيون هم جبهة الدفاع عن تلك الحرية وعن قيم العلمانية والتمدن. هم قطب النضال من اجل حرية الانسان ومن اجل التصريح بافكاره بلا تخويف. انهم طليعة جماهير العمال والكادحين والشباب والنساء وكل التحرريين والعلمانيين وكل من يود مجتمعا حديثا عصريا. لقد احالت البرجوازية وقواها الرجعية المتحالفة مع الاسلام السياسي المجتمع المدني الى غابة تلمع فيها سيوف الاسلام السياسي. انها تستثمر كل مناسبة من اجل ابراز سيوفها وتلويحها بوجه الجماهير المتمدنة. علينا كاشتراكيين وشيوعيين مهمة الدفاع عن تلك الجماهير وعن مدنيتها. نحن نمثل القطب الثالث في المجتمع؛ قطب الانسانية التي تلقى الارهاب من الغرب وامريكا من جهة والاسلام السياسي من جهة اخرى. على الجماهير التحررية والملايين من محبي التحرر والمساواة ان يقولوا لن نعتذر عن الاختلاف في وجهات النظر لانها وجه انسانيتنا وحق من حقوقنا. لن نعتذر عن ابداء وجهات نظرنا والدفاع عن حريتنا في قول ما نعتقد. ان على قوى الاسلام السياسي وكل الرجعيين هم الاعتذار عن تهديداتهم، لا بل ان عليهم ان يقدموا الى المحاكمة لقاء تهديداتهم بالقتل لمن يخالفهم في الرأي وان تتم معاقبتهم على فتاويهم وكل ما سببوه من ويلات و دمار وانحطاط  للانسانية.
 
عليهم هم تقديم الاعتذار فوراً لكل البشرية.