لا يمكن تنصيب دولة من فوق المجتمع ورغم ارادة الناس !

 

عصام شكــــري

ishukri@gmail.com

 

ماذا يبقى من الدولة في العراق لو ازلنا عنها قوى الجيش والشرطة ومعها بالطبع السجون والمعتقلات والمعسكرات ومديريات الاستخبارات ومخبري المالكي السريين موزعي الولاءات ؟.

 

لا شئ.

 

جميع مكونات الدولة الاسلامية القومية في العراق من اجهزة تشريع (برلمان) وتنفيذ (حكومة) وقضاء ينخرها الصراع على النفوذ والمصالح من قمة رأسها حتى اخمص قدميها ولاءات موزعة بين المجاميع الدينية والطائفية والقومية والعشائرية وتوزع ”ارزاقها“ على الموالين والمحاسيب والازلام والاتباع !. ليس في الامر ثمة مبالغة.  المواطن في العراق يعرف ذلك جيدا وقد سأم منه حد الغثيان.

 

ولكن الدولة في العراق لم تؤسس بعد!. الاثبات بسيط جدا؛ فلو كانت قد أسست على اسس صحيحة لكانت قد نجحت في اكثر مهماتها اساسية —مهمة  توفير الامان لتراكم رأس المال. ولكن كلما اعلنت الدولة في العراق انها نجحت في توفير الامان و“مكافحة التكفيريين“ كلما رجعت تتربع في احضان الفشل مرة اخرى.

 

ينجحون في القضاء على ”فلول“ القاعدة في الرمادي والموصل وديالى، لينشب الصراخ في مجلس النواب حول الحصص. ينجحون في لجم الخلافات بين الملالي والمشايخ والرجعيين في مجلس النواب، ليلعلع الرصاص بين القوات الحكومية وميليشيات الصحوة السنية، يعالجون الاخيرة بشق الانفس لتبرز مشكلة الهجمات الانتحارية في المناطق الشيعية، يعالجون تلك بالمفارز والجيش، ليخرج مقتدى الصدر بفتوى ويهدد بالعصيان، يعالجون هذه وتلك، ليخرج عليهم القوميون الكرد مهددين ومتوعدين بالاستيلاء على خانقين وجلولاء وكركوك... وهكذا دواليك وهلمجرا.

هذه هي الدولة في العراق: هيئة الميليشيات والشيوخ والملالي ورؤساء عشائر يمزقون بعضهم البعض ويجرون معهم المجتمع نحو الهاوية بلا توقف.

 

جماعة المالكي و“الوطنيون“ من حلفاء امريكا يعزون سبب اخفاقات الدولة الى غياب ”الارادة السياسية“ للاطراف، و يشكك بعضهم في ”وطنية“ المخالفين لهم! يهاجمون  بعضهم البعض بحجة ان الاخر هو الطائفي!.

 

كل اسبوعين يأتي المالكي برؤساء العشائر الذين يضعوا على وجوههم ما يكفي من مساحيق ”الوطنية“ ليفتتح بصحبتهم مؤتمرا عالميا لتجمع عشائر وافخاذ وبطون هذه المنطقة او الناحية. وبعد خطبة طنانة مليئة بسخافات الوطنية و“العراق العظيم“ (اليس هو نفس العراق الذي دمرته قوات حليفه الامريكي ؟!)  وضرورة الاخلاص للوطن  ونبذ الفرقة ينتهي الحفل بتوزيع ”كواني“ الدنانير او الدولارات وبضعة بنادق لمحاربة ”التكفيريين والصداميين“.  . ان الحكومة تستند الى اكثر التنظيمات رجعية من اجل تحقيق مهمات هي اصلا وقصرا من مهمات الدولة السياسية.

 

ويبدو ان المالكي وهو المعتقد بعمق بقوة النظام العشائري وفوائد لدولته لا يدرك انه حتى تلك القيم العشائرية في عراق ما قبل الرأسمالية كقيم النخوة والفروسية واكرام الضيف والاثرة والبسالة... لم يبق منها شئ اليوم. فضيوفه من رؤساء العشائر اؤلئك حالما يقبضون ”المعلوم“ فانهم يذهبون لصرف الاموال فورا على شراء اسلحة ربما تسلم في اليوم التالي لاعداء المالكي نفسه !!. منتهى الشهامة العشائرية!. ومنتهى الحنكة في ادارة الدولة العراقية!. ببساطة فان دولة العراق هي دولة ميليشيات ومافيات اسلامية وطائفية وعشائرية ومرتزقة وكل شئ فيها يجري باشراف الجيش الامريكي .

 

******

 

ان اخفاق الدولة الصارخ في العراق لا يعود لكون هذه الهيئة تتبع دستورا دينيا او قوميا رجعيا معاديا للحرية وللمرأة ومساواتها وللعلمانية والتمدن (رغم نضالنا باستمرار وفي كل الاحوال ضد هكذا دستور وقوانين رجعية)، ولا يعود الى غياب ”التوافق الوطني“ او ” القواسم المشتركة“ (يقصدون قواسم الارباح المشتركة)، بل يعود السبب الى ان تلك التشكيلة من الموظفين المأجورين تم جلبهم بعملية جرت كليا خارج المجتمع؛ من فوق رؤوس الناس، ومن خلف ظهورهم ونصبوهم كقوى اسلامية وقومية رغم انف المجتمع، ورتبت مراسيم كسب الشرعية لتلك الهيئة عن طريق انتخابات صورية اخذت من خلالها بصمة المجتمع بوسائل الترغيب والترهيب واعتبرت تلك الهيئة بالتالي ”شرعية“ (اي كسبت الشرعية من المجتمع الغارق لاذنيه في الكارثة والمصيبة). نعم. بامكان الضباط الامريكان والبنتاغون ان يشكل عشرات الهيئات ومنها الدولة ولكن الواقع دائما له الكلمة الاخيرة.

 

ومن الغريب الا يتعلم الامريكيون انفسهم دروس تاريخهم هم. لقد انشأت البرجوازية الدولة الامريكية من خلال نضال اجتماعي سياسي محتدم دخلوا من خلاله صراعا مع المحتل البريطاني اسفر على تشكيل الدولة واعلان الاستقلال. والان يتساءل الساسة الامريكيون عن سبب فشل السلطة في العراق وعجزهم  عن الثقة بهذه الدولة التي نصبوها تنصيباً؟.

 

ولكن لان الدولة منصبة من قوة خارج المجتمع وخارج ارادته فان تلك الدولة ستظل كسيحة ”تسحل“  ارجلها سحلاً ولن تصل الى اي مكان .!

 

دولة العراق الحالية مرهونة بقوات الاحتلال. بزوال تلك القوات الجرارة فان مصير تلك الهيئة التي نصبها الغرب بقيادة امريكا لن يكون معروفا. ستجد تلك الهيئة نفسها منقسمة بين ولاءات ميليشياتها ، سيزداد الاحتقان الطائفي والديني والعرقي والقومي داخلها حتى تنفجر كالدمل.

 

ان احتلال العراق لكل هذه السنين هو السبب الاساس لعدم قدرة المجتمع على ان يكون طبيعيا ليس فقط من جهة استرجاع خصائصه المدنية ولكن ايضا من جهة قدرته على تشكيل دولة يختارها بحريته وارادته الحرة دون خوف وارهاب سواء من طرف دولة امريكا او قوى الاسلام السياسي والقوميين.

 

نؤكد دوماً على ان تطبيع الاوضاع في العراق وتحكيم ارادة الجماهير بحرية وبالتالي قدرتها على تشكيل دولتها وتحكيم خياراتها السياسية دون خوف او اكراه، دون متفجرات وارهاب اسلامي  وامريكي، هو رهن بخروج القوات المحتلة ونزع سلاح الميليشيات الاسلامية والقومية لا بمثابة كونهما خطوات عملية برسم التطبيق  فحسب بل على اساس كونهما  شروطا سياسية موضوعية فقط بامكان الجماهير ادركها لحريتها وارادتها من خلالها؛ لاطلاق وتفعيل تلك الارادة في اختيار شكل نظامها السياسي؛ اختيار دولتها ونظامها السياسي بحرية.

 

حزبنا في تلك الاوضاع سيدعو الجماهير وينظمها لتشكيل الدولة الاشتراكية القائمة على اساس المساواة الكاملة بين جميع المواطنين؛ دولة الحرية والمساواة والرفاه.