من اجل ماذا وبأي ظرف يناضل حزبنا؟

 

عصام شكــري

  

في المؤتمر الاول لحزبنا الشيوعي العمالي اليساري، صادق نواب المؤتمر على استراتيجية الحزب. ولكن ماذا في استراتيجية الحزب غير طرد القوات الامريكية والبريطانية من العراق ونزع سلاح الميليشيات الاسلامية والقومية؟. لا يمكن اختصار الاستراتيجية في هذين المطلبين. ان من يظن ان استراتيجية حزبنا تنحصر في "تحرير" العراق من الاحتلال ونزع سلاح الشراذم والعصابات البرجوازية اليمينية الرجعية (الحاكمة او المعارضة) الاسلامية والقومية يكون بحاجة اكيدة لاعادة قراءة تلك الوقيقة وادراك الاهمية السياسية لها.

 

فالاستراتيجية تبغي بالاساس وفي المكانة الاولى تأسيس الدولة الاشتراكية في العراق. انها ومن هذا المنظور تطالب بتحقيق الشروط اللازمة لتأسيس هذه الدولة؛ أي من خلال المطالبة بـتوفير شروط تغيير الواقع الراهن في العراق، فانها تضع اسس تحقيق الهدف الاساسي لحركة الشيوعية العمالية وللطبقة العاملة؛ تأسيس الدولة الاشتراكية.

 

ماهي قوى واقع اليوم؟

 

الجماهير تعاني لا من الاحتلال الامريكي والبريطاني فحسب بل بالتماس الحي والمباشر بحياتها اليومية ومعاناتها فانها تعاني من سطوة ونفوذ قوتين رجعيتين تسيطران على المجتمع. الاولى هي الميليشيات الاسلامية—الذراع الضاربة العسكرية والارهابية لقوى الاسلام السياسي بكل الوانها الموالية والمعارضة لامريكا. والثانية هي الميليشيات والاحزاب القومية من عربية وتركمانية وكردية. الا ان الاحزاب القومية الكردية لها الحضور الاكبر في الساحة السياسية وهي مدعومة من قبل امريكا بحكم تخدم مصالحها. ان القوى القومية الكردية هي اليوم في السلطة المركزية والمحلية. تحتل منصب رئاسة الجمهورية والحكومة بالاشتراك مع الاسلاميين وايضا مناصب ”حكومة” كردستان، أي باختصار مجمل المناصب التي وزعتها امريكا عليهم لقاء خدمات هؤلاء لها قبل واثناء وابان الحرب الامريكية واحتلال العراق. كلا القوتين الرجعيتين  أي الميليشيات الاسلامية والقومية تشتركان في تردي الاوضاع وتشكلان السبب الاساسي في ادامة الاوضاع الكارثية والمأساوية في المجتمع.

 

ماذا يعني هذا؟

 

انه يعني ان الجماهير اليوم تعاني من حكم وسلطة ميليشيات ومجاميع وعصابات رجعية وليس من استبداد سلطة دولة. ميليشيات متباينة الاهداف والمصالح ولكنها بمجملها  شديدة الرجعية بايديولوجياتها القائمة على الدين والطائفية والقومية والشوفينية العنصرية. ذلك يعني ايضا ان الجماهير تعاني من تشرذم وانهيار مجتمعها المدني ( لانعدام الدولة) وكذلك من قمع واستبداد تلك القوى ( جنوبا ووسطا وشمالا!!) وانعدام الحقوق والحرمان الاقتصادي والحقوقي والسياسي ومن التخلف الديني والقومي والاثني ومن تدمير اسس الفكر العقلاني والعلماني والتمدن واعادة احياء الخرافات الدينية والممارسات البليدة والخرقاء والوحشية وبث التخلف والتمييز الجنسي والقومي والديني والطائفي والعرقي واسع النطاق ونبش كل ما دفنته الحركات الراديكالية والثورات الانسانية التقدمية من قبور التأريخ، وارجاعه كجثث نتنة تجثم على صدر المجتمع.  كل تلك عينات بسيطة من الواقع  الذي ترسخه وتقدسه اليوم الميليشيات الرجعية بحماية الجيش الامريكي والبريطاني في العراق.

 ماذا يعني هذا ايضا؟ يعني ان الجماهير اليوم بحاجة الى تغيير فوري وجذري لهذا الواقع . انها بحاجة الى بديل؛ علماني متمدن حديث وانساني.

 

علماني: يحقق وبشكل قانوني فصل الدين عن الدولة، يزيل كلمة الاسلام (او أي دين اخر) هو دين الدولة الرسمي، كما لا يقيم التمايزات القومية بل يعتمد المواطنة المتساوية، علماني بمعنى ان تخلق الاسس القانونية والحقوقية والسياسية لممارسة اوسع الحريات السياسية والفردية والمدنية والاجتماعية للافراد. ان الدولة العلمانية غير القومية هي ذلك البديل الذي يطرحه حزبنا للجماهير وبديل ستراتيجيتنا المنسجم كليا مع آمال الناس في الحرية والمساواة والامان والتمدن والحداثة.

 

ولكن هذا البديل لا يمكن ان يكون من بدائل أي فصيل من البرجوازية. ان الفصائل البرجوازية اليوم بمجملها معادية للعلمانية، ورجعية. ان بديل حزبنا السياسي لهذا الشكل من الدولة: أي الدولة العلمانية اللاقومية ليس الا بديل الطبقة العاملة والجماهير الغفيرة التواقة للحرية والمساواة بينما البرجوازية وقواها ترسخ التمييز واللامساواة والطائفية وتغرق المجتمع بالتخلف. ان بديل العلمانية هو نفس الجمهورية الاشتراكية الذي سيعطي للدولة العلمانية شكلها المادي المشخص ويحققها كواقع لا كمقولة نظرية ويكسبها شكلا مادياُ. هذا البديل يتطلب نضالنا نحن الاشتراكيين من اجل تحقيقه.

 

وفي نفس الوقت وعلى هذا الاساس فان علينا كحزب شيوعي عمالي وكعمال وعلمانيين ومساواتيين ان نعبد الطريق التي ستوصل الجماهير والمجتمع، الى تحقيق هذا البديل—أي الدولة الاشتراكية. هذا الطريق يمر حتماً عبر رص صفوف القوى الاجتماعية التحررية والمساواتية والعلمانية والثورية في السيناريو الحالي الذي تعيش فيه الان، أي اكتساب قوة الجماهير وقواها من الاسفل لا من اعلى؛ من الشارع لا من دهاليز الدبلوماسية ومسالك عقد الصفقات المشبوهة. ان رص صفوف الجماهير من اجل الدفع بمطالبها قدما يشكل و بحد ذاته اليوم مطلباُ ملحاً لتحقيق الجمهورية الاشتراكية. وهنا فان استراتيجية الحزب الشيوعي العمالي اليساري تضع الخطوط العريضة والصحيحة في هذا الاتجاه.

 

ان معنى انهاء السيناريو الاسود بالنسبة لنا لا علاقة له بمفاهيم القوى القومية العربية حول ما يسمى تحرير ”التراب الوطني“ او   ”الارض“ من المحتل ”الاجنبي“. ان الطبقة العاملة والجماهير الكادحة لا تمتلك هذه الارض ولا تكتسب منها أي ”ريعاً“ عقارياً ولا تستطيع بيعها ولا تأجيرها للطبقة البرجوازية كما تفعل الاخيرة بها وتستعبدها بها.

 

ان مطلب حزبنا باخراج القوات الامريكية والبريطانية من العراق يهدف الى تحرير المجتمع والجماهير الغفيرة؛ أي تحرير الانسان من تلك القوى المستبدة والغاشمة التي تظطهده وتعيد انتاج نفس ظروف السيناريو الاسود عليه كل يوم وتكبل ارادته السياسية وتجعله عاجزا عن احداث أي تغيير. انه "تحرير" مزدوج من البرجوازية العالمية ( امريكا) والبرجوازية المحلية من اعداء وازلام امريكا ( القوى والميليشيات الاسلامية والقومية) من جهة اخرى. هذا التحرير لارادة المجتمع هو شرط انجاز بديل العلمانية والتمدن والمساواة بين المواطنين ودك اسس وركائز الدولة الدينية-القومية .

 

وعلى هذا الاساس فان قرار مؤتمرنا بضرورة النضال من اجل طرد القوات الامريكية والبريطانية ونزع سلاح الميليشيات الاسلامية والقومية يهدف اساسا الى تحقيق هذا الشرط؛ تطبيع المجتمع؛ وفتح المجال لاختيار الجماهير لدولة علمانية تمثل مصالحها وامالها.

 

متى نحقق مطلب الاستراتيجية الاساسي؟

 

ان مطلبنا بطرد امريكا وبريطانيا من العراق ونزع سلاح الميليشيات الاسلامية والقومية والعشائرية يتحقق عندما نستطيع ان نوحد صفوف الجماهير حول تلك المطالب لا في العراق فحسب بل وضمن نطاق عالمي واسع. تحقيق ذلك الشعار ليس مرتبطا بواقعيته او مثاليته بل متعلق بشكل مباشر بقدرة الحزب وقواه على تعبئة قوى الجماهير في العراق والعالم حول تلك المطالب. ان هدفنا بتحقيق الدولة الاشتراكية في العراق، على هذه الاعتبارات، لم يأت من خلال القفز فوق الواقع وصعوباته بل تحديدا من خلال المرور من امامها ومواجهتها والتغلب عليها.

 

ان هدفنا النهائي في تحقيق الدولة العلمانية / الاشتراكية لن يتحقق بطرق ”موجودة ً“ ولكنها لا تخطر ببالنا !. اننا ازاء وضع سياسي واجتماعي في العراق اثبتت السنين القليلة الماضية صواب ودقة تحليلنا له. فالسيناريو الاسود الذي تكلمنا عنه يتفاقم والقوى التي نكلت بالجماهير وارهبتها اثبتت عجزها عن تحقيق أي مطلب انساني للجماهير في العراق واولها الخروج من هذا النفق المظلم وتحقيق دولة مواطنة ومجتمع مدني.

 

هذا السيناريو الاسود هو الواقع الذي يجب على القوى الاشتراكية الانطلاق منه لا التحليق فوقه او "تحاشيه" او دفن الرؤوس بالرمال هرباُ منه . على الاشتراكيين والماركسيين ان يناضلوا في قلب السيناريو الاسود لا من خارجه. وعليهم ان يناضلوا من اجل انهاء هذا السيناريو تحديداً ونقل المجتمع الى وضع اخر افضل للجماهير.

 

ان من يقول ان النضال من اجل الاشتراكية اليوم مستحيل لان الوضع غير ثوري عليه ان يدرك بانه مقولته تمثل جزءأ من صيرورة الوضع وادامة لقوى وميليشيات السيناريو الاسود نفسها ؛ ان ترسيخ الوضع من خلال قتل الهمم واللجوء الى تيأييس الجماهير والخمود وتهميش دور العمال والاشتراكيين والراديكاليين فانما يصب حتماً في خانة الميليشيات  والقوى المعادية لليسار والعلمانية والتمدن.

 

ان تعبئة الجماهير من اجل طرد قوات امريكا وبريطانيا ونزع سلاح الميليشيات ممكنة التحقيق ولكنها بحاجة الى اداة اشتراكية وانسانية متماسكة وفعالة. تلك بامكانها ان تكون قيادة اشتراكية جريئة وتعتبر ان هذا المجتمع مجتمعها وهي مسؤولة عنه وعن مآله وصيرورته وترفع راية انقاذه.

 

انها بحاجة الى حزب شيوعي عمالي صلب وذو ارادة شيوعية وانسانية قوية بامكانه تعبئة القوى في العراق وخارجه من اجل تحقيق هذا الهدف. لحد هذه اللحظة اثبتت البرجوازية، كما قلنا، عجزها التام لا عن الاتيان ببديل تحرري للجماهير بل حتى عن انهاء ما تقول انها ستنهيه من اوضاع دموية. ذلك يضع على كاهلنا مهمات مضاعفة.

 

في قلب هذا الصراع سيجسد حزبنا المعنى الحقيقي للنضال الاشتراكي من اجل "الاستيلاء على السلطة السياسية" لا بالمعنى التحالفي او الفوقي او المساوماتي مع القوى الرجعية بل بمعنى وصول الحزب الى السلطة وتأسيس الدولة الاشتراكية وانهاء وجود الدولة البرجوازية الدينية والقومية وبلا مواربة.

 

ان تحقيق الاشتراكيين للدولة العلمانية هو بمعنى ما، تجسيد معاصر لما قام به البلاشفة قبل قرابة الــ 100 سنة في تحقيق الدولة الديمقراطية بالمعنى الذي أشار اليه قائد حركة الاشتراكية – الديمقراطية والحزب البلشفي لينين. الدولة العلمانية لن تتحقق اليوم الا عن طريق النضال الاشتراكي ولن تتجسد الا من خلال الجمهورية الاشتراكية تماماً كما لم ترتسم ملامح الدولة الديمقراطية الا من خلال الدولة الاشتراكية السوفييتية في اوكتوبر من عام 1917.

 

باختصار؛ علينا اليوم كاشتراكيين النضال داخل هذا السيناريو الاسود وضد قواه الرجعية بكل مكوناتها في العراق.  لا يوجد لدينا وضع مثالي للنضال. ان استراتيجية حزبنا تؤشر على مسالك واضحة للاشتراكيين لانقاذ المجتمع وتغيير وضع الجماهير فوراُ. علينا تفعيل تطبيق ستراتيجية حزبنا والعمل بها واولها الشروع في تعبئة القوى اليسارية والعلمانية والمتمدنة والعمالية والنسوية والطلابية من اجل قهقرة قوى السيناريو الاسود بشقيها الرجعيين.

 

علينا الا نغفل ظروف نضالنا فلن يكون بامكاننا كشيوعيين ان ننتظر ظروفاً اخرى ”مواتية“ للعمل بين الجماهير. علينا الشروع فوراُ من اجل وضع المجتمع على عتبة عراق آخر: عراق اشتراكي حر ومتساو وانساني.