فوكوياما واندحار ايديولوجيا اليمين الامريكي

 عصام شكــــري

 

في مقابلة مع مجلة نوليدج (المعرفة) البريطانية العدد 10 آذار 2010 رد فرانسيس فوكوياما ، احد أشهر منظري المحافظين الجدد بامريكا اوائل التسعينات، وبشكل مندحر على سؤال حول كتابه "نهاية التأريخ"الذي صدر قبل 18سنة معترفاً ان ما توقع له ان يكون مرحلة انتقال عالمية نحو ”الديمقراطية الليبرالية“ عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، اصبحت اليوم نكوصاً متأزما.  لم تبدر من فوكوياما اي لمحة تنبؤية متذاكية اخرى لستر تناقضه الصارخ بين "نهاية التاريخ“ الذي اعلنه و ”تاريخية“ نفس تلك المرحلة. وبدلا من ان يسقط فوكوياما تأريخ ماركس وينظر لنهاية الشيوعية والعامل المعترض، فقد كتب في الواقع كتاب نهاية تأريخه هو!.

 

في عام 1992 كتب فرانسيس فوكوياما ”نهاية التأريخ والانسان الاخير“. وقد مثل كتابه، وقبله مقالته بنفس العنوان في العام 1988 انجيل اليمين الامريكي الايديولوجي. اليوم بعد مرور اكثر من 20 سنة على رواج فلسفة نهاية التأريخ اعلن فوكوياما في مقابلته مع المجلة البريطانية ان افكاره لم تتحقق وان التأريخ بعيد جدا عن النهاية في بوح هامس عن موت الفكر الايديولوجي الامريكي الذي اعقب سقوط الاتحاد السوفييتي وشكل القوة الدافعة للسياسة الوحشية لامريكا لعقدين كاملين والتي اطلق عليها النظام العالمي الجديد.

 

تتمحور افكار فوكوياما في كتابه المذكور حول مقولة نهاية تاريخ الصراع الايديولوجي بالنصر النهائي للحكومة الديمقراطية الليبرالية والمستمدة من افكار الكسندر كوجيف. فالاخير قد حاول، وضمن مناخ الحرب الباردة اواسط القرن العشرين ان يقول بان تطور الافكار يسير بمعزل عن حركة التأريخ الواقعي، وبان النصر النهائي للفكر الليبرالي والممارسة الديمقراطية كشكل للسلطة الرأسمالية سيحقق النصر النهائي وحينها سينتهي التأريخ (بعبارة هيغل—ماركس) ولكن على نقيض افكار ماركس، بانتصار حاسم ونهائي للرأسمالية.

 

حين تهاوت دول المعسكر الشرقي التي سميت خطئا بالدول الاشتراكية والشيوعية، اواخر الثمانينات واوائل التسعينات، تلقف الغرب ذلك على انه سقوط للشيوعية. وبدأ فوكوياما والعديد من ايديولوجيي اليمين، بنفخ الحياة بافكار كوجيف والاستناد الهزلي الى عبارات ماركس، مستعيراً منه مقولة نهاية التأريخ.

 

بعيدا عن صراع النزعات الفكرية في الجامعات والمؤسسات البحثية الامريكية التي تمولها الطبقة البرجوازية وتروج فيها لافكار تخدم مصالحها، فان الواقع الاجتماعي كان يتحرك بشكل شبه مستقل، بوتيرة اسرع، ولكن باتجاه اخر. فالغرب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي قد وجد نفسه في حالة من الفراغ وانعدام التوازن وكانت امريكا ودول الناتو بحاجة الى اعادة تعريف موقعيتها العالمية. وانهارت منظومة عالمية باكملها كانت مصممة وممحورة حول قطبين كلاهما رأسمالي؛ احدهما ادعى الشيوعية ولكنه كان يمثل نموذج التراكم الرأسمالي في الدولة ومؤسساتها وبيروقراطيتها الادارية، والاخر مثل رأسمالية السوق الحرة الاكثر قدرة على التكيف والتطور وتجنب الازمات الدورية.

 

فوكوياما والمؤدلجون الامريكيون احضروا لتلبية مصالح الهيمنة والسيادة الامريكية. فامريكا بالذات كانت بحاجة الى دور جديد وتموضع جديد برايات جديدة وعدو جديد وتبريرات للعسكريتاريا والتسلح، جديدة. وحينها رأى فوكوياما ان اطلاق كتاب نهاية التأريخ سيسدي خدمة جليلة لليمين الامريكي المتطرف والذي مثل امتدادا تأريخيا لليمين الامريكي الكلاسيكي ممثلا بالريغانية والثاتشرية في الثمانينات.

 

ان انهيار الاتحاد السوفييتي مثل صدمة للغرب والعالم ولكن مهندسي الافكار كانوا يدركون ان الجواب على سقوط الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر المواجه للغرب كان بحاجة الى ماهو اكثر من الاحساس بالذهول، بحاجة الى ”خارطة طريق“ سياسية وليس مجرد الاعلان والتهريج الهولييوودي عن انتصار ”الخير على الشر“ وانظمة الحرية على الشمولية. كان ساسة الغرب بحاجة الى بوصلة ايديولوجية يستندون اليها في تبرير مساراتهم السياسية المتخذة اصلا: العسكريتاريا المنفلتة لاعادة تشكيل العالم بهيمنة امريكية احادية. هنا جاء فوكوياما ليقدم خدماته ولينال التكريم والاشادة لدرجة فاقت امكاناته الفكرية الهزيلة باشواط. فكان كتابه نهاية التأريخ والانسان الاخير الذي رفعه الى ”رامبو“ البرجوازية الايديولوجي.

 

وبعد ان صدر كتاب فوكوياما بدأت حملة للترويج الفكري بانتصار الديمقراطية الليبرالية على الشيوعية لتبرير سياسة الهيمنة والعسكريتاريا للناتو. فمليارات البشر كانوا بحاجة الى ”اعادة تأهيل“. فبدأ بالدعوة الى ان امريكا هي حامية "الفضيلة" وكانت الديمقراطية الليبرالية ومبادئ الثورة الفرنسية (التي روج لها فوكوياما كذبا كما سنلاحظ) و"نهاية التأريخ" احد اهم اركان تلك الحملة العسكرية لامريكا ايديولوجيا. ان حاجة امريكا الى اعادة التموضع بعد سقوط السوفييت والمعسكر الشرقي قد دفعها الى سياسة العسكريتاريا والهيمنة ولكن العالم لم يفهم سبب تلك السياسة فكان ان استدعي فوكوياما وغيره "لافهام" المليارات من البشر الدواعي الخيرة لامريكا والناتو والغرب، ولتوفير المادة الايديولوجية اللازمة لقنوات التزييف الفكري الهائلة التأثير – من السي ان ان و السي بي اس و فوكس نيوز و رويترز واسوشيدت برس وحصون الفكر الليبرالي العريق، هارفارد وام اي تي وييل ومراكز ”البحوث“، مؤسسة راند، وجون هوبكنز وغيرها كثير.

 

فكانت "الضربات الوقائية" pre-emptive strikes  والصدمة والارعاب shock and awe بحاجة ماسة الى "نهاية التأريخ"، كما كان المحافظون الجدد وجورج بوش بحاجة الى فوكوياما وهانتنغتون وغيرهم من "المفكرين".

 

ولكن كيف يرى فوكوياما نفسه وافكاره حول نهاية التأريخ اليوم ؟ انه قطعا يبدو مختلفا، انسانا معتذراً ومشككاً بالنهايات !، ولم تصيب افكاره او ربما "اخذت على محمل الجد اكثر من اللازم". في اكثر من موضع يعبر فوكوياما عن خيبة امله وشكه في نهاية التأريخ قائلا: 

 

" في اللحظة الراهنة ، نحن نمر بموجة من التراجع. .....اليوم نحن في مرحلة اعادة التخندق حيث ان كل ما اعتقدنا انه مثل مرحلة انتقالية الى الديمقراطية هو في الحقيقة نكوص الى شكل ما من الشمولية ...“و "جورج بوش لن يتمكن من جلب الديمقراطية للعراق بمجرد رغبته بذلك". و "اخذ جورج بوش اطروحتي على محمل الجد بشئ مبالغ به في تصديق وجود موجة لا يمكن التصدي لها من الديمقراطية والتي يمكن حينها تطبيقها على الشرق الاوسط والعراق".

 

ان في الاقتباسات السابقة ما يكفي لاعلان فوكوياما عن فشل اطروحته وهزيمتها. فالديمقراطية الليبرالية التي حاول ان يستعملها كتبرير لسياسة العسكريتاريا واليمين الامريكي قد فشلت وحدث حسب تعبيره نكوص. ولكن الغريب انه لم يعتبر ان نكوص المشروع الامريكي تجسد في فشلها اساسا في تحقيق نموذج للدولة الحديثة "الديمقراطية الليبرالية" في العراق حين اقتلعت الدولة وحطمت مجتمعه المدني وملئته بشراذم الدين والقومية والمذهبية بل برره ببروز انظمة شمولية قومية اخرى ( الصين روسيا والتطرف الاسلامي حسب تعبيره).

 

ولكن فوكوياما يكذب يكذب حتى يصدق كذبه.

 

فحين يدعى ان امريكا انتصرت نهائيا بمبادئهما الليبرالية الديمقراطية (وانتهى التأريخ عند هذا) لم يشر الى ان امريكا لم تفعل في الواقع سوى العكس. لقد سلطت امريكا في العراق وافغانستان القوى الاسلامية والعشائرية والطائفية والمذهبية وضربت العلمانية والمواطنة وقسمت العالم على اساس الثقافات المتصارعة وقدست الثقافات الحقيرة على حساب الحقوق الفردية والمدنية للمواطنين وضربت مساواة المرأة وسلبت الالاف من المكتسبات العلمانية والمساواتية.

 

لم يتحدث فوكوياما عن ذلك. لم يتحدث عن مدى التطابق بين اطروحته والواقع وما جرته على ملايين من البشر من اهوال وويلات مغرقا الاذهان باهوال "الشيوعية" وانظمتها الشمولية والتي لم تكن سوى نسخة اخرى من الحكم الرأسمالي الوحشي واللا انساني.

 

لم يقل فوكوياما ان امريكا شرعت نظامها العالمي الجديد بضرب يوغوسلافيا وقتلت في اول طلعاتها الجوية اوائل التسعينات اكثر من 50 الف انسان بايام قليلة، وشنت الحرب على العراق بتجميعها ل 113 دولة وقتلت مئات الالاف دون ان تمس نظام صدام، ومن ثم فرضت الحصار والتجويع الذي قتل اكثر من مليون ونصف انسان ثلثهم من الاطفال دون سن الخامسة وبرعاية الامم المتحدة، وجلبت الاسلام السياسي من الكهوف وسلطته على البشر في كل انحاء العالم وفرضت الهويات الدينية والقومية والاثنية في كل مكان. لم يبين فوكوياما ان كانت تلك هي مبادئ الثورة الفرنسية "الديمقراطية الليبرالية“؟ وهل هذا هو النموذج النهائي الذي دحر ماركس وشيوعيته العمالية وانهى التأريخ ؟!

 

وفي اخر سؤال وجه له في نفس المقابلة قيل له: "هل ان اطروحتك دقت المسمار الاخير في نعش البديل الماركسي ؟" تهرب فوكوياما من الاجابة الصريحة بالقول:" اعتقد انها بالفعل خدمت في زعزعة شرعية الانظمة الشيوعية وخاصة في اوربا الشرقية".

 

لشخص اكاديمي من عيار فوكوياما فان الاجابة على سؤال التشكيك ب"بديل ماركس" لن يكون سوى في انتهاز الفرصة للطعن ببديل ماركس الاشتراكي وفي الشيوعية بمعنى انهاء العمل المأجور والملكية الخاصة لوسائل الانتاج وانهاء النظام الاجتماعي الطبقي والاستغلال. ولكنه اكتفى بالقول بان نظريته هزت الانظمة الشيوعية في اوربا الشرقية. انه يعرف تماما ان ما سقط في المعسكر الشرقي لم يكن بديل ماركس وان بديل ماركس الاشتراكي لم يؤسس بعد. فكما نقد ماركس وانجلز في "البيان الشيوعي" – الشيوعية البرجوازية فاليوم بامكان فوكوياما ان يتحدث عن انهيار الشيوعية البرجوازية ولكنه لا يستطيع ان ينهي شيوعية العامل – بديل ماركس، فان اخر نصر احرزته شيوعية ماركس كان في اكتوبر 1917 لتنهار بعدها بقليل تجربة ثورة العمال الاشتراكية.

 

ورغم ان فوكوياما اراد ضرب الجذر المعرفي والتحزبي للنظرية الماركسية باعتبارها نظرية الطبقة العاملة في الثورة، بادعاء "نهاية تأريخ" ماركس والصراع الطبقي لا بانتصار الاشتراكية وانهاء المجتمع الطبقي، بل بنصر الرأسمالية المحقق وحمل امريكا لراية الديمقراطية الليبرالية، فانه توانى عن مجابهة ماركس ونظرية ماركس في التأريخ. فهو لن يجرؤ على مجابهة ماركس ولن يستطيع ان يتجاوز دوره كمهرج ايديولوجي لجورج بوش واليمين الامريكي المندحر.

 

اليوم في 2010 فشلت تنظيرات نهاية التأريخ وانهارت معه ايديولوجيا اليمين الامريكي، ليس فقط بنهاية البوشزم وسياسة المحافظين الجدد، بل بانتهاء خرافة ان البرجوازية تمثل القوة التحررية التي ستحمل رايات الثورة الفرنسية الكبرى قبل 200 عام. ليس هناك ما تحمله البرجوازية من قيم تحررية بعد اليوم لا العلمانية ولا المساواة ولا الالحاد ولا نقد الدين ولا المجتمع المدني ولا حقوق المرأة ولا الدفاع عن المواطنة. هنا مكمن فشل واندحار فلسفة فوكوياما وليس زعمه في تهديد نموذجه الامريكي من قبل البرجوازيات القومية الصينية والروسية والتطرف الاسلامي !.

 

فوكوياما الذي اراد خدمة السيادة الامريكية على العالم كذب اولا بادعاء انها حاملة مشعل الثورة الفرنسية وكذب ثانيا باخفاء ان من انتهى تأريخه حقا هو الطبقة البرجوازية ونظامها الرأسمالي ككل وان تلك الطبقة قد تحولت الى طبقة رجعية بالكامل.

 

هنا مقتل فلسفة "نهاية التأريخ" وهنا تدفن اطروحات اليمين الامريكي وتنهار ايديولوجيته.