هل ثمة منابر مجانية ؟

 عصام شكـــــري

ishukri@gmail.com

  

البعض يقول في  نقد ”برئ“ الى موقفنا من مهزلة الانتخابات: ”انكم بهذا“المنطق“ تعزلون انفسكم عن الاوضاع التي تسير نحو التطبيع والاجواء مفتوحة وعليكم ان تدخلوا ”البرلمان“ وتناضلوا من داخله لتغيير الامور ولديكم مجال للمنافسة داخل النظام السياسي لابراز اليسـار وتقوية صف العمال“. بعض القوى اليسارية تستل هذه الايام من ركام الفكر الانتهازي المتملق تبريرات للدخول مع القوى الاسلامية والقومية بحجة  انه ”حتى لينين قال يجب المشاركة بالبرلمانات البرجوازية...“. تلك المقاربة  غير صحيحة في احسن الاحوال ومظللة في اسوأها. سيؤدي هذا المنهج من الناحية العملية—السياسية الى توجيه ضربة اخرى  للشيوعية الراديكالية تمهيدا لمحاصرتها وتصفيتها ووضعها ”تحت الابط“ بدلا من اي تصور واهم حول ”منابرهم  المجانية“.

وراء مثل هذه الاقوال منطق سياسي مشخص. يعكس ميل اليسار البرجوازي للاصطفاف والتماهي مع قوى الرجعية الاسلامية والقومية المنصبة من امريكا والتمسح باذيالها لاكتساب القوة من خلال  التواجد والتخندق معها ( مع الدولة) نظير الاعتراف بهم كقوى شرعية نصبها الاحتلال فوق ارادة الجماهير. من الناحية العملية فان الاصطفاف مع البرجوازية سيكون بيان نعي اخير ونهائي لوجود تلك القوى في صف العمال والجماهير وحركة الشيوعية العمالية ومحاولة مقصودة لتلويث هذه الحركة (لا من الناحية النظرية) بل عمليا وواقعيا. سيتم رمي برنامج عالم افضل جانبا ومن هذا البرنامج الثوري المتطرف في يساريته وانسانيته ستخرج كل التبريرات التي تروج لهذا الاصطفاف او ذاك، لهذا التنازل او ذاك، لهذا التراجع او ذاك، لستمر  نهج المساومة كل مرة بحجج اخرى جديدة .

هل ثمة منابر مجانية ؟

يتم ادعاء بعض مجاميع الشيوعيين بان البرلمان يوفر منبر مهم لمخاطبة المجتمع والجماهير من خلاله تماما كما قال لينين. تلك العبارة برأيي مغلوطة وفارغة من المعنى. ان التغيرات المهولة في تقنيات الاتصالات والترويج والدعاية والاعلام و“مخاطبة الجماهير“ ( او هندسة عقولها وغسل ادمغتها من قبل اعلام الطبقة البرجوازية) قد غيرت جذريا من مكانة البرلمان كمنصة عالية لمخاطبة الجماهير وسماع الجماهير للقوى السياسية. لم يعد برأيي البرلمان يمتلك تلك الاهمية التي كان يتمتع بها اوائل القرن العشرين لا بل حتى اواخره. لنفترض على سبيل الجدل ان المجتمع في العراق غير محتل، وان مئة وخمسون الف جندي امريكي لا يعسكرون في اراضيه، وان القوى الحالية منتخبة بشكل ديمقراطي وليست قوى جلبت وسلطت على المجتمع ، لنفترض انها قوى ”نظيفة“ اياديها غير ملطخة  بدماء الاطفال والنساء والمؤامرات، لنفترض انها لم تأت عن طريق الارهاب والاحتلال، ولنفترض انها جاءت بانتخابات في مجتمع هادئ ومطمأن وليس بالاجواء الكارثية المعروفة، لنفترض حالة معاكسة كليا للواقع الراهن، هل ان منبر البرلمان حتى في تلك الحالة يتمتع الان بنفس القدرة السابقة على  مخاطبة الجماهير والترويج للشيوعية قبل ظهور الفضائيات والانترنيت واليوتيوب والتسجيل القرصي ومقاطع الفديو الملتقطة بالتلفون المحمول ؟. ان مثال تغطية احداث الحركة الثورية لجماهير ايران مؤخرا والاحتجاجات الضخمة التي منعت جميع وسائل الاعلام من تصويرها او التقاطها، قد قامت بها الجماهير نفسها، المحتجين انفسهم من عمال وشباب ونساء بانفسهم، انها الوسائل الجديدة والحديثة المتماشية كلية والمتناسقة مع التطور التقني الهائل. انها وسيلة الجماهير لكشف الزيف والاستبداد وارهاب الجمهورية الاسلامية حيث اصبح المواطنون مراسلين صحفيين بكل جدارة ومهارة. كيف كان العالم سيعرف بمقتل ندى اغا سلطان وقتلها من قبل الباسيج ؟ او بالمئات من المواجهات بين الجماهير وقوات القمع ؟ او بحملات الاغتصاب والتعذيب الوحشية في السجون ؟ هل من منابر مجلس شورى الجمهورية الاسلامية ؟!

ان من يدعي الاهتمام بتوفير المنابر للشيوعيين لمخاطبة الجماهير، حري به توسيع امكانات وقدرات الشيوعيين وبذل الجهود من اجل توفير وسائل الدعاية والتحريض وترويج الاشتراكية؛ الترويج للمساواة والحرية والتمدن والعلمانية والحقوق المتساوية الكاملة للمرأة بالرجل. الا يجب نشر الالاف من الجرائد ؟ ، الا يجدر فتح فضائية تروج لتلك الافكار ؟ الا يجدر العمل بين اوساط العمال وتنظيمهم وفق تلك الاسس ، الا يجدر تنظيم المساواتيين في منظمة راديكالية معادية للاسلام السياسي تناضل من اجل المساواة الكاملة للمرأة بالرجل بدلا من ادخال الاصوات الحرة والراديكالية في جحور واوكار الوحوش الكاسرة للاسلاميين والطائفيين والقوميين والعشائريين الذين لا يتورعون عن قتل افراد عائلتهم في سبيل مصالحهم الخاصة؟! وان كانوا معتقدين بمنصور حكمت الم يقرأوا ما روج له مرارا حول استخدام اليات المجتمع في مخاطبة الجماهير؟ الم يطالب بفتح اذاعة وتحويلها الى منبر للشيوعية العمالية والصوت الراديكالي الانساني في المجتمع ؟!

انصتوا خاشعين !

لنتحدث قليلا عن مجلس النواب الحالي ونجلب النظر الى مسألة تبدو للبعض ”بسيطة“ واعتقد ان لها دلالة هزلية وصلة بما اقول: جلسات مجلس النواب العراقي تفتتح بالقرآن، للدلالة على اسلامية البرلمان  !. ليس الامر مضحكا بالطبع بل مؤسف ولكنه حقيقة!!. يفتتح الساسة الرجعيون جلسات مجلسهم وكأنهم في فاتحة على روح احد الاموات والحقيقة لا اتمالك نفسي الا ان اتصور ان الميت نفسه  قد يكون قد قتل على يد احد القوى الجالسة في تلك الفاتحة نفسها (او احد الاقرباء). جائز اليس كذلك؟! .

مجلس النواب الحالي اضحوكة، مهزلة،  سيرك مثير لسخرية وازدراء الناس ومرارتهم. حتى وحوشه ليست كما  في السيرك، مقيدة داخل اقفاص لحماية الجمهور، بل وحوش طليقة حرة في القفز على الجمهور ونهش من تشاء و “ تفخيخ “ من تشاء .

لو كان مثل هذا البرلمان موجودا في اي دولة متمدنة اخرى لكسرت اثاثه على رؤوس اعضاءه في اليوم التالي من قبل الجماهير. ولكن كيف تتمكن جماهير العراق من عمل ذلك الان وهي تحت التفجيرات والاحتلال والميليشيات ؟. من جهتها تصف دول الغرب وحكوماته هذا المجلس ب ”البرلمان الديمقراطي الوحيد في المنطقة“. لانه يدافع عن مصالح تلك الحكومات الغربية ويمشي خططها.

ان ما هو اكثر سخافة من هذا المجلس هي اطروحات االبعض في اليسار في تشبيه مجلس النواب العراقي الحالي بمجلس النواب الروسي قبل الثورة (الدوما) لتبرير موقفهم السياسي القاضي بالدخول مع تلك القوى. انهم يجلبون اسم لينين للدفاع عن هذا الموقف ويقولون: ان الدوما ايضا كان مؤسسة رجعية. فلننظر ملياً الى تلك الرجعية.

أية رجعية بالظبط  ؟

 في اوائل القرن العشرين كانت البرجوازية الليبرالية قوية جدا. وكان لينين يسمى الدول الغربية بــ”المتمدنة“ اشارة الى تطور الاشكال السياسية للدولة فيها ووجود مؤسسة البرلمان. وحتى داخل روسيا كانت القوى الليبرالية والحركة العمالية تتنافسان بقوة وكان الاولى ذا حضور في المجتمع قبل البرلمان. اما قواها السياسية فكانت متعددة منها على سبيل المثال الاشتراكيين الثوريين والترودفيك والكاديت وكان المناشفة يقفون في اقصى يمين الاشتراكية الديمقراطية. كانت مسائل التحرر الاجتماعي كمساواة المرأة وفصل الدين عن الدولة والديمقراطية والحرية وغيرها مطروحة من قبل الطبقة البرجوازية ايضا وبقوة مما جعل لينين يفتح جبهة صراع مستمرة معهم (عدا جبهة صراعه الاساسية مع القيصرية) من اجل فصل افاق الحركة العمالية الثورية عن افاق البرجوازية. لقد اعترف لينين في احد كتاباته بان سر نجاح البلاشفة في ثورة اكتوبر هو تطبيقهم لبرنامج الترودفيك الزراعي الاصلاحي. المقصد هنا هو توضيح معنى رجعية الطبقة البرجوازية حينها ورجعيتها الان . هل هناك اي شبه بين القوى الحالية في مجلس النواب المسخرة وبين الدوما الروسي قبل 104 سنوات ؟!. الفرق جوهري واساسي وان مقولتنا بان البرجوازية اصبحت في احط درجاتها اليوم وبانها لم تعد تمتلك ذرة من تمدن  صحيحة. لارجعكم الى مثالي السابق واعيده على مسامعكم:

” يفتتح مجلس النواب  جلساته بالصلوات والفاتحة وآيات من الذكر الحكيم !!.” 

فهل سينصت يساريينا ياترى خاشعين ؟!

نقطة اخرى مهمة تبين الفرق الشاسع بين برلمان روسيا عام 1905 والبرلمان المسخ في العراق العام 2009، يمكن توضيحها بصيغة اسئلة: هل جاء برلمان روسيا  ثمرة لحكومة نصبها الاحتلال بعد ان  دمر المجتمع الروسي وقتل مئات الالاف من البشر فيه ؟  هل انتخب اعضاء الدوما في الوقت الذي كانت فيه الدبابات الالمانية او الفرنسية او الامريكية مثلا تجوب شوارع موسكو وسانت بيترزبورغ وتعتقل الناس وتقتحم البيوت وتقتل المدنيين العزل وخلفها تسرح وتمرح عصابات وميليشيات الدينيين والقوميين المدججة بالسلاح؟ هل اجريت انتخابات الدوما وقوات الجيش المحتل تعسكر في السهول الروسية تصدر اوامرها وتوجيهاته لاعضاء البرلمان؟!. واذا كان الجواب النفي فلماذا اذن يراد جر لينين ومقولات لينين الى الموضوع.؟ مالهدف؟

تطبيع الاوضاع ام فشلهم هم؟

واذا كانت الامور طبيعية كما يقولون فلم لا يتم النضال داخل صفوف الجماهير اذن؟ مالمانع ؟ اصل المسألة لا تتعلق بالمنبر والنضال البرلماني واقوال لينين وتجميع الشيوعيين في كتلة وغيرها. اصل المسألة يتعلق باخفاق تلك القوى داخل المجتمع. حاولت وفشلت. ولكن الفشل ليس بسبب ان الجماهير غير مستعدة او ضعيفة او غير علمانية او ”متخلفة“ بل بسبب السياسة التساومية التي انتهجوها وفقدوا معها كما يقال ”الجوخ والبلداوي“. وبدلا من معالجة الضعف بمضاعفة الجهود وانتهاج سياسة اكثر راديكالية وتطرفا انسانيا وشيوعية ولا- مساومة فانهم الان يريدون تعويض ما فشلوا عنه ولكن داخل البرلمان—من اكثر المؤسسات رجعية وتحقيرا للمرأة الى ص 4

بحجة ان ”الامور تسير نحو التطبيع“. وحتى لو وافقنا على ان الامور الامنية ستكون افضل من السابق (والواقع يشير الى العكس تماما) اليس حري بالشيوعيين ان يقولوا نعم لدينا فرصة اكبر الان للنزول بين الجماهير وتنظيمها ؟ حيث الاوضاع اكثر امانا ؟

*****

الحذر

يجب ان تنتبه الجماهير والقوى الاشتراكية واليسارية وخاصة الشيوعية العمالية الى خطورة ادعاءات القول بان من الممكن الحصول على الاصلاحات من داخل منابر هؤلاء لانها في الواقع تعني تسليم اعناقهم بيد البرجوازية المتوحشة في العراق لا اكثر. يجب الا ندعهم يدخلون الطبقة العاملة والاشتراكيين والراديكاليين والمساواتيين الى اقفاص لن يكون مصيرهم فيها الا القتل وتصفية القضية العمالية والتحررية في العراق. لا تصدقوا ان منابر مجلس النواب العراقي ستكون مشرعة لارتقاء الشيوعيين العماليين عليها دون ان يتحولوا الى ذيول للبرجوازية وقواها الرجعية. والارهابية.

مسألة العمال ومساواة المرأة بالرجل وفصل الدين عن الدولة والتمدن والمجتمع المدني والحداثة ليست مسائل برلمانية او تاتي ”من فوق“ من البرجوازية، انها مسائل الجماهير واماني الجماهير ونضالهم ولا سبيل اخر لانجازها بالطرق الجانبية المختصرة كما يتوهمون.

الحذر، كل الحذر من مكائد البرجوازية .