الاحتجاجات الجماهيرية في كردستان والمنطقة

الى أين؟!

جليل شهباز

  

بدأت الاحتجاجات الجماهيرية في كردستان العراق منذ 17 شباط وهي مستمرة لحد الان، إلا أنها محصورة حاليا" فقط في مناطق نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني. باعتقادنا ان هذه الاحتجاجات الجماهيرية لا تختلف عن مثيلاتها في بقية بلدان المنطقة لا من حيث التركيب الاجتماعي ولا من حيث المضمون والاهداف والآمال. ولذلك فإن كل المظاهرات والاضرابات وكل الاحتجاجات الجماهيرية في عموم المنطقة  قد اندلعت بمبادرة من الشباب ومشاركة واسعة من العاطلين عن العمل وبقية الفئات الجماهيرية المحرومة من الحقوق والحريات. وكما هو معروف كان عنصر الحرمان من الحقوق والحريات والجوع والفقر والبطالة، بمثابة القاسم المشترك الأعظم بين كل الاحتجاجات والثورات الجماهيرية في كل البلدان الخاضعة حاليا" للمد الثوري. ولكن ما هو مثير للجدل بهذا الخصوص، هو أن تلك الاحتجاجات والثورات الجماهيرية قد تمكنت في بعض البلدان من تحقيق انتصارات ثورية كبيرة وصلت الى حد الاطاحة برأس النظام وتحديدا" في كل من تونس ومصر، وبطبيعة الحال، رافقتها الكثير من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهمة، وفي بلدان اخرى بلغت الحركة الاحتجاجية للجماهير درجات قريبة من اسقاط السلطة، وكذلك تمكنت تلك الحركات في البعض الاخر من تلك البلدان من تحقيق انتصارات جزئية ولاتزال الاحتجاجات الجماهيرية فيها محصورة في دائرة ضيقة أو هي في طريقها الى التوسع، في حين تم قمع تلك الاحتجاجات في بقية البلدان بمنتهى القسوة والوحشية. أما في كردستان فإن الجماهير الثائرة قد تمكن لحد الان من تحقيق بعض الانتصارات الجزئية وان دائرة الاحتجاجات الجماهيرية تتجه فيها نحو التوسع، ولذلك فعلى أثر تلك الاحتجاجات تم ارغام الحزبين الحاكمين على تقديم الكثير من التنازلات والاعراب عن الاستعداد للقيام بالكثير من الاصلاحات وقد رأينا كيف أن رئيس حكومة الأقليم قد قدم برنامجا" كاملا" , للاصلاحات وظهور رأيس الأقليم مرارا" على شاشات الفضائيات الكردية وهو يعرب عن تأييده للمطالب الجماهيرية وعن رغبته في دعم كل الجهود الهادفة الى تحقيق الاصلاحات في اقليم كردستان، وسنحلل لاحقا" هذه المسألة بمزيد من الاسهاب.

 

والسؤال هنا: ما الذي دفعت الأوضاع السياسية في المنطقة نحو مزيد من التفاقم، لا وبل نحو حالة الثورة والتمرد على أعتى الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، ولتكون بالصورة التي ذكرناها؟! في الحقيقة ان الأسباب التي دفعت بالأوضاع في المنطقة نحو ما هو عليه الآن معروفة للجميع وقد ذكرناها فيما سبق الا أن واقع الحالة الثورية وسلسلة الانتصارات والهزائم والتقدم والتراجع التي تحققها الجماهير الثائرة بأعمالهم الثورية والبطولية ضد أنظمتهم القمعية والاستبدادية هي التي يجب تحليله لنكون على دراية شفافة بديناميكية سير الحركات الجماهيرية في خضم هذه الأحداث التاريخية العظيمة. في الحقيقة ان سلسلة الاتنتصارات والهزائم وحالة التقدم والتراجع أثناء الصراعات والتناحرات الاجتماعية الكبيرة تتعلق بطبيعة موازين القوى السياسية والاجتماعية وعمليات استقطاب وتعبئة القوى الجماهيرية وكونها في لحظة زمنية معينة تميل نحو أي طرف في عملية الصراع السياسي والاجتماعي. وعليه فإن هذه المسألة هي التي تحدد اي طرف في عملية الصراع ستظفر بالانتصار والتقدم ومن سيمني بالهزيمة والتراجع! ولهذا فإذا أمعنا النظر في حالة الانهيار السريع الذي تعرض لها النظامين السياسيين في تونس ومصر، سنرى بأنه على اثر عمق وحدة التناقضات الطبقية واتساع الفجوات والتفاوت الكبيرين بين مختلف الطبقات الاجتماعية في هذين البلدين قد دفعت عملية الاستقطاب الطبقي وموازين القوى بسرعة مذهلة لصالح قوى التغيير والحداثة وكما نعلم فعلى أعقابها تمكن الثوار من الاطاحة بالنظام في هذين البلدين في غضون أيام واسابيع. وبهذا فإن نسبة موازين القوى السياسية والاجتماعية وما يرافقها من عمليات الاستقطاب الاجتماعي وتعبئة القوى الجماهيرية بالنسبة لكلا طرفي الصراع السياسي والاجتماعي في بقية البلدان هي التي تحدد الكيفية التي ستكون عليها حالة الثورة ومدى قربها أو بعدها عن الانتصار النهائي وبالتالي الاطاحة بالسلطة السياسية الحاكمة في تلك البلدان. ولذلك فإن كردستان باعتقادنا تخضع لنفس القاعدة السببية لعملية الثورة والصراع على السلطة السياسية، ولكن أهم ما يميز كردستان عن بقية بلدان المنطقة هي الوحدة الشكلية للسلطة والحكومة في الاقليم والانقسام الفعلي لهما بين معسكرين تابعين لحزبين عشائريتين ومتخلفتين وهما الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، وجدير بالذكر ان الاحتجاجات الجماهيرية في كردستان محصورة في مناطق نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني، وهذا لا يعني أن الاتحاد الوطني قوة سياسية ديمقراطية وتحررية أكثر من الحزب الديمقراطي بل، ان الاتحاد الوطني بوصفها قوة سياسية قد شهدت انقساما" سياسيا" وحزبيا" حادا" حول السلطة والثروة وبطبيعة الحال رافقها انقساما" اجتماعيا" وجماهيريا" أيضا" ضمن حدود نفوذ الحزب المذكور وهذا بدوره قد ساعد على اضعاف وتخفيف قبضة كلا الجناحين على الجماهير الغاضبة فأتاحت الفرصة أمام الحركة الاحتجاجية للجماهير للنزول الى الشارع والتعبير علنا" عن غضبهم واستيائهم ضد السلطة الحاكمة، ولكنه على أثر الجريمة البشعة التي ارتكبها مسلحي الفرع الرابع للحزب الديمقراطي في مدينة السليمانية في يوم 17 شباط ضد المتظاهرين أمام مقر فرعهم، ساعدت على اتساع رقعة الحركة الاحتجاجية للجماهير الثائرة بسرعة مذهلة لتشمل معظم مناطق نفوذ الاتحاد الوطني. في حين لازال القبضة الحديدية للحزب الديمقراطي قوية وغير متراخية وبأمكانها ان تضرب كل من يحاول الاعتراض ضد الحزب المذكور وبغية ضمان عدم اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية نظمت القوى الأمنية للحزب المذكور الكثير من العمليات الاستباقية وعلى اعقابها تحول كل المناطق السكنية الملتهبة والتي يحتمل أن تندلع فيها الاحتجاجات، الى مايشبه بالثكنات العسكرية ومن الصعب أن يرى المرء زقاقا" أو دربونة في تلك المناطق تكون غير خاضعة لعيون قواهم الأمنية وهذا ما حالت دون أن تشمل الاحتجاجات الجماهيرية في تلك المناطق على الرغم من أن بقية العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تشكل السبب الموضوعي لانطلاقة الحركات الاحتجاجية الجماهيرية، لا تختلف اطلاقا" عن بقية مناطق كردستان خصوصا" وكل المنطقة عموما"، وعليه فهل من الممكن أن تندلع الاحتجاجات الجماهيرية في مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي؟! باعتقادنا لو سارت الامور على نفس المنوال واذا ما بقيت الأوضاع الثورية على ما هي عليه الآن حتى فترة زمنية قصيرة اخرى، فمهما كانت جبروت وصتوة وقوة الحزب الديمقراطي، فلابد من اندلاع الحركات الاحتجاجية ومختلف العمليات الجماهيرية الثورية في معظم مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي، وإذا علمنا بأن الحزب الديمقراطي لا هو أكثر قوة من البعث السوري ومجالس القذافي ولا أكثر ثراء" ولا أكثر خبرة" منهما، فإن عدم اندلاعها ليست سوى مسألة وقت وان اندلاعها حاليا" ليس بحاجة سوى للشرارة الأولى.

 

هناك مسألة اخرى بنفس الخصوص نرى من الضروري التوقف عندها: ألا وهي لماذا لم تقف الحركات والثورات الجماهيرية الحالية في المنطقة ومن ضمنها كردستان عند حد الاصلاحات؟! وعلى الرغم من أن الحكام والأنظمة المهددة بالسقوط في منطقتنا الملتهبة يطلقون دوما" الوعود والتعهدات باجراء الاصلاحات؟! وبدلا" من أن يذعن الجماهير المعترضة لصوت الاصلاح والتغيير نرى بأن الجماهير الثورية يرفض باستمرار كل دعوة للاصلاح، وعلى العكس من ذلك، فمع كل تعهد باجراء الاصلاح يرفع الجماهير الثائرة سقف مطاليبهم ويمضون قدما" على طريق الثورة. أما بهذا الخصوص ففي الحقيقة ان الحق وكل الحق مع الجماهير الثورية لأن الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان غير قادرة على السير في طريق الاصلاح ذلك لأن الاصلاح أمر ممكن فقط في الديمقراطيات الغربية العريقة لأن القاعدة المادية والاجتماعية التي نشأت عليها النظم الاقتصادية في تلك البلدان، وكذلك النظم الحقوقية والسياسية لا يتأثر بتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل وربما يصبح عامل مساعد لبقاء واستمرارية النظم الاجتماعية في تلك البلدان، في حين ان طبيعة النظم السياسية والاجتماعية فيما يسمى ببلدان العالم الثالث غير قابلة تاريخيا" للخضوع لأية تغيرات مهما كانت تافهة بسبب الاستغلال الوحشي لقوة العمل الانسانية في تلك البلداان والقاعدة الاقتصادية الهشة والاستبداد السياسي والنظم القانونية الجائرة التي هي انعكاس للعلاقات الإنسانية الناشئة على الاستغلال الوحشي لقوة العمل أثناء عملية الانتاج الاجتماعي. ولذلك فإن أي تغيير تمس هرم السلطة السياسية أو بقية ميادين الحياة الاجتماعية في بلدان العالم الثالث من شأنها أن تهدم كامل النظام السياسي والاجتماعي لأنه لا يوجد شيء في تلك البلدان ليس بحاجة الى التغيير أو تحظى بالقبول الاجتماعي. ولهذا فإن اتفه تغيير أو اصلاح ربما يتبعها تغيير كل موازين القوى السياسية والاجتماعية وبالتالي يدفع النظام السياسي نحو الهلاك، وعلى هذا الأساس فإن الحكام في مثل تلك البلدان يطلقون فقط الوعود بالاصلاح والتغيير دون التوجه عمليا" ولو حتى خطوة واحدة نحو التطلعات والأماني الجماهيرية. وفي نفس الوقت تدرك شعوب تلك البلدان بالفطرة بطلان وعود حكامهم وزيف ادعائاتهم ولهذا فأنهم لا ينخدعون بتلك الوعود الزائفة وبرامجهم التافهة بخصوص الاصلاح ولا يقفون عند حد الاصلاحات بل، يمضون قدما" في طريق الثورة حتى النهاية بغية تحقيق التغيير الجذري الشامل. وهذا ما يسري واقعيا" في كردستان أيضا" فالجميع يدعون بأنهم مع التغيير بدءا" من رأيس الأقليم ومرورا" برأيس الحكومة  وقيادة الحزبين الحاكمين إلا أن أقوالهم لا يشكل سوى حبرا" على ورق أسوة" بادعاءات أشقائهم في طهران ودمشق وطرابلس والرياض وبذلك فإن جماهير كردستان سوف لن ترضى بأقل من الاطاحة بسلطة هذين الحزبين العشائريتين واقامة سلطة مدنية تجسد ارادتهم الحرة لتحل محل تلك السلطة الرجعية.

 

31 آذار 2011