ويكيليكس والديمقراطية النيابية

  

جليل شهباز

  

منذ أن نشرت الوثائق والتقارير السرية الصادرة من مختلف الهيئات السياسية والدبلوماسية الأمريكية حول مختلف القضايا السياسية منها وغير السياسية على صفحة ويكيليكس ولحد الآن، لاتكاد يمر يوما" دون أن ينكشف المزيد من فضائح الأنظمة البرجوازية وصفقاتهم السياسية الوضيعة وأتفاقياتهم ومساوماتهم المشبوهة في مختلف أنحاء العالم. إن البرجوازية بحكم كونها طبقة طفيلية تسعى بكل الوسائل الممكنة القانونية منها وغير القانونية على عصر العمال والكادحين حتى تمتص منهم المزيد من العمل الزائد الذي يشكل المصدر الوحيد للقيمة الزائدة والتراكم الرأسمالي وكل ارباح الراسماليين. ولذلك فإن التاريخ الأسود للنظام الاجتماعي البرجوازية المليئ بالمأسي والكوارث الإنسانية الرهيبة زاخر بعمليات السرقة والنهب والكسب الغير شرعي بغية زيادة وتوسيع أرباحهم وليس هذا فقط ، بل وأن الراسمالية المعاصرة التي نراها حاليا" بكل جبروتها وعظمتها قد تكونت تاريخيا" من خلال إبادة شعوب بأكملها في أفريقيا وآسيا والامريكيتين كما ودفعت البشرية على أثرها بحارا" من الدماء وجبالا" من العظام والجماجم كضريبة لذلك التاريخ الأسود للتراكم البدائي الراسمالي، وبهذا فإن الجريمة والبربرية والتوحش والسياسة الرجعية والدبلوماسية المشيوهة يمكن أن يجدها المرء بسهولة في كل مفصل من مفاصل الرأسمالية  وفي كل عضو من أعضاء النسيج الاجتماعي للنظام البرجوازي وهي في نفس الوقت صفات متجذرة في ذلك النظام. على الرغم من التقدم الهائل لقوى الانتاج الراسمالي فإن الطبيعة العدوانية والنزعة البربرية الساعيتين لتحقيق المزيد من الأرباح وضمان استمرارية التراكم الرأسمالي لهذا النظام لازال على حاله لم يتغير ولذلك نرى بأنه حتى أعتى الأنظمة الديمقراطية في العالم الرأسمالي من الذين يتبجحون ليل نهار بمزايا الديمقراطية وحقوق الانسان مستعد من أجل حفنة من الدولارات الزائدة أن تدفع شعبها نحو لجة الفقر وإذا لزم الأمر واستطاع ستغرق البشرية بأجمعها بالدماء دون أن يرف لها جفن. وهذا ما حصل بالفعل في العراق وأفغانستان والجمهوريات اليوغوسلافية السابقة وبعض الدول الأفريقية، وكذلك هذه تعتبر نماذج وأمثلة حية لما نقول ولما تؤكده تلك الوثائق.

 

فإذا كانت كل هذه البربرية والوحشية والاستغلال الشديد هي ما تميز اسلوب الانتاج الرأسمالي وعلاقات انتاجها على الصعيد الاقتصادي فلا غرابة أن تكون الأنظمة السياسية التي تنشأ على كل هذه الشرور الاقتصادية أن تتسم بالقمع والاستبداد والمراوغة والخداع والدبلوماسية السرية والاستعانة بالأجهزة القمعية لتنفيذ مختلف السياسات الرجعية واللآإنسانية بغية حماية اسلوب الانتاج الرأسمالي المتناقض داخليا" والقائم على استغلال العمل المأجور وهذا ما تؤكده تلك الوثائق السرية في بعض جوانبها على موقع ويكيليكس الالكتروني. ولهذا فإن التاريخ الأسود لهذا النظام الرجعي قد ذكرت مرارا" بأنه حتى أعتق الديمقراطيات البرجوازية في العالم عندما تتعرض مصالحها الاقتصادية أو سلطتها السياسية للأزمات الخانقة والحادة تتحول على الفور من حمل وديع إلى وحش كاسر وتمحى تقاسيم وجهها البريء وتكشر عن أنيابها وتسحق تحت أقدامها الثقيلة كل ما يواجهها وهذا ما فعلته العقب الحديدية لدرك السلطة البرجوازية الامريكية التي سحقت بأقدامه الثقيلة مئات الألوف من العمال والجماهير الكادحة أثناء انتفاضة شيكاغو في عشرينيات القرن الماضي وفي نفس الوقت تقريبا" أو قبلها بقليل فعل الدرك الألماني ومختلف أجهزته القمعية الشيء نفسه في مدينة برلين وبعض المدن الألمانية الاخرى في حين أن أوضاع العمال والكادحين في بقية دول العالم لم تكن أفضل من أوضاع رفاقهم الألمان والامريكيين، وبهذا فإن تاريخ الأنظمة السياسية للطبقة البرجوازية مليئ بمثل تلك الأحداث ناهيك عن حربين عالميتين  راحت ضحيتهما عشرات الملايين من الناس لا لشيء فقط بسبب أي من الضواري في العالم سيستأثر بحصة الأسد من أسواق العالم وذلك لتصريف فائض منتوجهم التي أنتجتها سواعد العمال ونفس الأمر مستمر على نفس المنوال لحد هذه اللحظة لا وبل ربما أسوء من ذلك بكثير. ففي التاريخ المعاصر القريب اندلعت حروب الخليج الثلاثة وحرب أفغانستان على أعقاب أحداث 11 سبتمبر والحروب العرقية والمذهبية التي عمت العالم أجمع والتي على أثرها أصبح العالم من أقصاها إلى أقصاه جحيم لايطاق بالنسبة للعمال وكل الجماهير الكادحة.. أما في أوقات الأزدهار والرخاء من حياة النظام الرأسمالي فأنهم يظهرون الديمقراطية البرلمانية وايديولوجيتها الليبرالية وكأنها نظام سياسي اجتماعي خالد ومتناسب مع الطبيعة البشرية ويطبلون ويزمرون لحقوق الانسان والحريات السياسية ولذلك السقف من الحريات والحقوق التي تسود في أغلب الديمقراطيات الغربي، ليخدعون بها الجماهير العريضة في بلدانهم وكأن تلك الحريات والحقوق منحة للجماهير في تلك البلدان قد أقرها لهم البرلمانات البرجوازية والتعددية الحزبية وينفذها ويدافع عنها حكوماتهم من منطلق إنساني. ولكنه فلتفعل البرجوازية وخدمهم من رجالات البرلمان والوزارات ما يشاؤون لأن ذلك لا ينطلي على العمال والكادحين في مقطعنا التاريخي المعاصر لأن الجميع على دراية تامة بأن القسم الأعظم من الحقوق والحريات هي نتيجة مباشرة لنضال الطبقة العاملة وتضحياتهم وقد اضطرت البرجوازية تحت ضغط وقوة الطبقة العاملة ونضالاتهم من اقرار القسم الأعظم من تلك الحريات والحقوق وانهم يعلمون أيضا" بأن القسم القليل الباقي من الحريات والحقوق قد أرغمت النظم البرجوازية وبرلماناتها على اقرارها لأن عجلة الانتاج الراسمالي لا تسير دونها وخصوصا" الحريات المتعلقة بمزاولة النشاط الاقتصادي والمتعلقة منها بآليات عمل الأسواق وحركة التبادل التجاري في الداخل والخارج. ولكنه مع ذلك فإن الديمقراطية البرلمانية من حيث واقع الأمر ليست سوى مهزلة لخداع العمال والكادحين لأن الديمقراطية البرلمانية والتعددية الحزبية ليس شيء سوى تجسيد لدكتاتورية الطبقة البرجوازية بغية الدفاع عن المصالح الطبقية للبرجوازية ضد خطورة الاعتراضات العمالية وثوراتها وانتفاضاتها وبالتالي لتعزيز سيطرتها الاقتصادية والسياسية داخل المجتمعات الراسمالية، ولهذا فإن معظم نواب البرلمان هم في الحقيقة خدم وضيعين لمختلف الكارتلات والتروستات الرأسمالية الذين يفوزون في الانتخابات النيابية بدعم ومساندة تلك التكتلات الرأسمالية وبهذا فأنهم سيظلون أسرى ومقيدين بالمصالح والتوجهات التي يمليها عليهم أسيادهم من ممثلي تلك الكارتلات والتروستات ولذلك نرى بأن عقد الصفقات السياسية والدبلوماسية السرية والتحرك خلف الكواليس وشراء الذمم والرشوة لشراء النواب والوزراء للاستحواذ على مختلف الصفقات الاقتصادية والتجارية. وأحيانا" استخدام كاتم الصوت والزنزانات والمعتقلات الرهيبة لإسكات الأصوات المعارضة، أو حتى إعلان الحروب إذا لزم الأمر للدفاع عن مناطق النفوذ الاقتصادي والسياسي أو السيطرة على مناطق نفوذ الاخرين هو في الحقيقة أهم ما يميز الديمقراطية النيابية والتعددية الحزبية على امتداد التاريخ السياسي البرجوازي وهذا مايؤكده أيضا" الوثائق السرية في موقع ويكيليكس.

 

فإذا كان الأمر كذلك فلماذا تم نشر كل تلك الوثائق السرية في هذا الوقت بالذات؟ ومن يقف ورائها؟ ولخدمة من تم نشرها؟ في الحقيقة إن نشر الوثائق السرية الامريكية في هذا الوقت بالذات حتى ولو كان الأمر غير مقصودا" من أحد فإن أمر نشرها في هذه الفترة لها مغزى سياسي خطير. فإذا علمنا بأن الازمة الاقتصادية العالمية التي تعصف بالاقتصاد الراسمالي لازالت مستمرة، وإن الفشل الامريكي الغربي في العراق وفشل حلف الناتو في تحقيق أي تقدم عسكري أو سياسي يذكر في افغانستان...إلخ فكان لكل ذلك تأثير عميق على السياسة والعلاقات الدوليتين وكذلك أدت إلى ازدياد حدة التناقضات بين مختلف التكتلات الاقتصادية والسياسية العالمية وعلى اتساع وتعميق التناقضات الاجتماعية في كل بلد على حدة، وبموجب ذلك كان لابد من إيجاد أمر من شأنه أن يلهي الرأي العام العالمي عن كل تلك السياسات والاعمال العسكرية اللإإنسانية الفاشلة وكذلك لكي تجذب أنظار العمال والكادحين في كل بلد بعيدا" عن التناقضات الاجتماعية وعما يجري داخل مجتمعاتهم. ولكنه في نفس الوقت فإن نشر تلك الوثائق أدت إلى خلق دوامة عنيفة وحالة من التوتر وعدم الاستقرار في العلاقات الدولية واعادة فتح الكثير من الملفات السياسية المغلقة والمهملة في أرشيف التاريخ المعاصر ولربما أن فتح مثل تلك الملفات قد تؤدي إلى حدوث الكثير من الأزمات السياسية في بعض بلدان العالم وكذلك إلى التهاب الكثير من القضايا القديمة لتؤجج من جديد الاحتقانات القومية والمذهبية بين مختلف شعوب ودول العالم، وكل هذه تشكل ببحد ذاتها أسباب كافية لاندلاع الحروب الأهلية والأقليمية ولا يحتاج الأمر إلى تحليل لكي نثبت من سيستفيد من اندلاع الحروب بين شعوب ودول العالم. أما على الصعيد الداخلي فيما يخص كل دولة على حدة فقد أدت فعلا" نشر تلك الوثائق إلى إثارة الكثير من النعرات الطائفية والمذهبية والقومية وهذا ما يمكن ملاحظتها في العراق ولبنان وربما في وقت لاحق يظهر تلك النعرات في الكثير من الدول الاخرى أيضا" وهذا ما قد يسبب الحروب الأهلية التي ستذهب ضحيتها دائما" وكالعادة الأبرياء والعمال والكادحين . وعلى هذا الأساس فإن نشر تلك الوثائق قد تكون لصالح مجموعة من الدول في حين يتضرر منها البعض الاخرى ولكنه وفي كل الأحوال فإن الكثير من تلك الوثائق قد كشفت الوجه القبيح لمختلف الأنظمة البرجوازية وعرت دبلوماسيتهم السرية وما يجري خلف الكواليس والغرف المظلمة، وعلى العموم فإن البرجوازية الامبريالية في امريكا والرأسمال الاحتكاري الامريكي هي المستفيدة الرأيسية من التوتر السياسي وظهور مختلف النزاعات السياسية بين دول العالم لأن كل ذلك من شأنها أن تساعد الادارة الأمريكية والبنتاكون من تعزيز سيطرتها السياسية والعسكرية بسهولة على مناطق النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي ناهيك عن الحروب إن اندلعت فإن فوائدها بالنسبة للبرجوازية والدول الامبريالية غني عن التعريف.

 

********