أيها السادة الرأسماليون، ماذا بعد السوق الحرة ؟!

 

الجزء الثالث

 جليل شهباز

ولذلك فإن تزايد وتوسع الفقر من إحدى الجوانب وتراكم الثروة وتوسعها من الجانب الآخر يمكن إعتبارهما بمثابة العنصرين الأساسيين اللذين سببا هذه الأزمة الأقتصادية والمالية الحالية، علما" أن هناك علاقة سببية واضحة بين هذين العنصرين في ظل نظام الأقتصاد الرأسمالي حيث أن كلاً من هذين العنصرين في ظل ظروف أقتصادية معينة من الممكن أن يصبحا سبباً لوجود الآخر. وبغية توضيح حيثيات الأزمة الحالية وكل تداعياتها ينبغي الوقوف عند هاتين النقطتين:

 

1ـ تزايد الفقر والبطالة: كما هو معلوم للجميع إن معدلات البطالة والفقر في مختلف بلدان العالم أصبح في تزايد مستمر وبفعل توسع حالات البطالة بين العمال على أثر إفلاس مختلف المؤسسات الإنتاجية التي رافقت حالة الركود التي أصابت الأقتصاد العالمي فقد إلتحق ملايين العمال الجدد بجيش العاطلين عن العمل. وبطبيعة الحال عندما يفقد العامل الأجير عمله فأنه يفقد معه مصدر دخله للإنفاق على معيشته ومعيشة عائلته، ومن جراء ذلك سوف ينخفض الطلب على مختلف السلع والخدمات بالضرورة. وعندما ينتشر الإفلاس أكثر فأكثر بين المؤسسات الصناعية والإنتاجية، وعندما يصل إلى المرافق الإنتاجية الرئيسية، فإن الأقتصاد الوطني يكون قد وصل إلى حالة الركود، وسيتبعها عجز مختلف المؤسسات الإنتاجية من الإيفاء بألتزاماتها المالية أمام البنوك وبذلك تكون الأزمة قد إنتقلت إلى النظام المالي والمصرفي.

 

2ـ من المككن أن يحدث العكس أيضا". أي أنه على أثر التراكم المطرد. للثروة وتوسعها من الممكن أن تحدث نفس المشكلة للأقتصاد الوطني. وبأعتقادي هذا هو السبب المباشر للأزمة المالية الحالية في أمريكا والعالم، حيث أن تراكم الرأسمال وتزايد الإنتاج الرأسمالي قد بلغا معدلات خيالية يستحيل معها أن تستوعب الأسواق المحلية والعالمية من أقصى العالم إلى أقصاه مثل تلك الكميات الضخمة من المنتوجات الصناعية والزراعية وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تعرض الأقتصاد العالمي إلى حالة الركود.

ورب سائل يسأل: أليس هذا تناقضاً واضحاً؟ فكيف يمكن أن نتحدث عن حالة الركود الأقتصادي على اثر تزايد معدلات الإنتاج إلى الحدود التي تعجز معها الأسواق العالمية والمحلية من استيعاب مثل تلك الكميات الهائلة من الإنتاج، وفي نفس الوقت نشهد ارتفاع أسعار مختلف السلع والمواد عموماً والمواد الغذائية خصوصاً في مختلف بلدان العالم ؟. هذا صحيح فإذا نظرنا إلى واقع العلاقات الأقتصادية والنشاط الأقتصادي فقط من الناحية الشكلية ستبدو لنا الأمور بهذه الصورة، ولكن إذا نظرنا إلى تلك الظاهرة الأقتصادية من حيث شموليتها وكل علاقاتها وروابطها الداخلية والخارجية فسيبدو الأمر مختلفاً عما هو ملحوظ شكلياً . بأعتقادي إن مسألة أرتفاع الأسعار بالتزامن مع حالة الركود الأقتصادي العالمي يعود إلى الأسعار الأحتكارية، ذلك لأن الشركات الأحتكارية في مختلف ميادين الحياة الأقتصادية هي التي تدير عجلة الإنتاج ، وبما أن الأحتكارات الرأسمالية كالتروستات والكارتلات العملاقة هي التي تسيطر على مختلف العمليات الإنتاجية، وبما أن المنافسة هي منافسة أحتكارية، فإن الأسعار لا يتم تحديدها وفق آليات السوق بل، أن السعر يتم تحديده وفقاً للأتفاق بين مختلف الأحتكارات ذات النوع الواحد. وعلى هذا الأساس فإن السعر في السوق هو أيضاً سعر أحتكاري، أي يتم تحديده وفق مشيئة هؤلاء المحتكرين. ولذلك فمهما كانت ضخامة حجم الإنتاج التي تنتجه المؤسسات الإنتاجية التابعة لتك الأحتكارات فستبقى الأسعار نسبياً في الحدود التي فرضها المحتكرون. وعليه وبغية عدم أضطرار الشركات الأحتكارية الى تخفيض اسعار منتجاتهم الأحتكارية فأنهم يقومون بإتلاف ملايين الأطنان من منتوجاتهم من مختلف أنواع السلع والمواد الصناعية. وهناك أمر آخر يجب أخذه بنظر الأعتبار، ألا وهو حتى لو أن أسعار مختلف أنواع السلع والخدمات قد إنخفضت من جراء الأزمة المالية والأقتصادية العالمية، فليس بوسع الغالبية العظمى من العمال والكادحين وكل ذوي الدخل المحدود أن يستفيدوا من هذا الأنخفاض للأسعار وبالتالي سوف لن يزيد الطلب الفعلي على السلع والخدمات ذلك لأن العامل يكون قد فقد مصدر رزقه ولم يعد هناك أي مصدر للدخل له ولعائلته ولذلك سوف يبقى مستوى الطلب الكلي على السلع والخدمات المعروضةعلى حاله دون تغيير. ولكن ربما يزداد في هذا الأثناء الطلب الفعلي على مختلف أنواع السلع والخدمات على أثر أنخفاض أسعار السلع، ونقصد بالطلب الفعلي، الطلب القادر على تغطية كلفة ثمن السلع والبضائع في السوق، وكما هو معلوم إن هذا النوع من الطلب محصور فقط بين ذوي الدخل المرتفع، وعليه فمهما تغير الطلب الكلي فسوف لن يتغير اي شيء لأن الطلب الكلي سوف لن يكون قادراً على تغطية ثمن السلع والخدمات. هذا يعتبر جانب من المسألة، أما الجانب الآخر فيتعلق بضرورة أستمرار عملية توسع وأزدياد تراكم رأس المال، ذلك لأن إحدى أهم خصائص النظام الأقتصادي والأجتماعي الرأسمالي هو ضرورة التوسع المطرد لرأس المال في كل لحظة وفي كل ساعة وفي كل يوم، وهذا يعني أن الرأسمال لا يستطيع أن يتوقف حتى ولو للحظة واحدة من التوسع والزيادة، وأقصد بذلك الزيادة والتوسع في حجم التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي، فإذا ما توقف الرأسمال عن الزيادة والتوسع، فهذا يعني أن النظام الأجتماعي البرجوازي قد انهار وإنتهى وجوده التاريخي. فكلما تعاظم تراكم الرأسمال، كلما زاد تعطشه إلى الزيادة والتوسع ويسعى باستمرار للبحث عن وسائل وطرق جديدة للأستثمار بغية تحقيق الزيادة والتوسع المستمرين. بأعتقادي ينحصر جوهر الأزمة الحالية التي أصابت النظام المصرفي والمالي العالمي في هذا النطاق، ولمزيد من التوضيح ينبغي أن نعلم بأن توسع التراكم الراسمالي قد بلغت حدودا" لم يعد بوسع النشاط الأقتصادي في العالم من أستيعاب كل ذلك التوسع والزيادة، كما ويجب أن نعلم بأن الحركة الأنسيابية لرأس المال هي حركة ذكية في ظل الأوضاع والظروف الأقتصادية العادية حيث أنها لا تتحرك إلا في الأتجاهات التي تضمن لها الأرباح الغير أعتيادية، ولكن أثناء الأضطرابات الأقتصادية كالأزمة الحالية فإن تلك الحركة تفقد توازنها وتتحرك بغباء وتبحث حتى عن أتفه الأمور عسى أن تحقق لها الزيادة والتوسع وهذا ما حصل بالضبط في أمريكا حيث أن قضية الرهن العقاري والقروض الميسرة التي منحتها البنوك العقارية للمستثمرين ومن ثم عجز هؤلاء المستثمرين عن الإيفاء بألتزاماتهم المالية على أثر أنخفاض أسعار العقارات وأنخفاض الطلب عليها، وبالتالي إفلاس البنوك العقارية ومن ثم أنتقال الأزمة إلى بقية القطاعات المصرفية في أمريكا والعالم تعتبر من أبرز ملامح الأزمة الحالية للنظام المالي العالمي وكذلك تمثل جوهرها الفعلي والحقيقي.

بقي أن نعلم لماذا إنفجرت الأزمة الحالية في بداية الأمر في الولايات المتحدة الأمريكة؟ أما بهذا الخصوص فلو ألقينا نظرة" خاطفة على الأقتصاد الأمريكي والقوة الأقتصادية لهذا البلد فسيتبين لنا بأن 80% من حجم تجارة هذا البلد هي تجارة داخية وهذا يعني إن التجارة الداخلية في امريكا تلبي 80% من أحتياجات السوق الداخلية من البضائع والسلع والخدمات التي تنتجها مختلف المؤسسات والمعامل الإنتاجية الأمريكية نفسها. أما ال20% الباقية من تصدير وأستيراد السلع والخدمات فتساوي ما يقارب ثلث حجم التجارة العالمية. ولذلك فأمر طبيعي أن يكون أمريكا مركزا" لانفجار الأزمة الحالية التي تعرض لها الأقتصاد العالمي. ذلك لأن الرأسمالية في هذا البلد قد بلغت درجة من التطور تمكنت على أثرها من إخضاع بقية التكتلات الأقتصادية العالمية لنفوذها السياسي والأقتصادي، وبطبيعة الحال، من خلال أستخدام قوتها العسكرية ونفوذها السياسي والأقتصادي قد تمكنت من السيطرة على كل المفاصل الأساسية للاقتصاد العالمي وهذا ما أرغمت تلك التكتلات الأقتصادية للركوع أمام الرأسمال الأحتكاري الامريكي.. ونتيجة" لهذا التطور العظيم للعلاقات الأقتصادية والنشاط الأقتصادي الذين تحققا في أمريكا فقد إتسمت الطبيعة الرأسمالية في هذا البلد يالشفافية والنضج أكثر بكثير من بقية الأنظمة الرأسمالية في العالم ومن جراء ذلك فقد تحولت الرأسمالية في أمريكا إلى نقطة تلاقي لمجمل تناقضات النظام الأجتماعي البرجوازي وبات سهلا" أن يرى المرء كل تناقضات ذلك النظام الأجتماعي بشفافية ودون رتوش وكانه أمرا" طبيعيا". أن أي شد وجذب سيظهر أولا" في نظام العلاقات الأقتصادية في أمريكا، كما وأن أي أضطراب أو مشكلة يتعرض لها النظام الأقتصادي الرأسمالي ينبغي عليه ان يظهر أولا" في واقع علاقات الإنتاج الرأسمالية في امريكا، وهذا ما حدث فعلا" أثناء الأزمة المالية العالمية الحالية. فأول ما ظهرت بوادر الازمة ظهرت في الأقتصاد الأمريكي ومن ثم إنتشرت كالطاعون في كل الجسد الرأسمالي المتفسخ.

 

ولكن مع كل ذلك، هل بوسع الأنظمة الرأسمالية في العالم أن تتجاوز هذه الأزمة ؟ بأعتقادي قأن الأنظمة الرأسمالية في ظل الأوضاع التاريخية الحالية هي محظوظة جدا" بسبب غياب الطبقة العاملة وطليعتها الثورية المتمثلة بالشيوعية العمالية في ميدان الصراع السياسي العالمي، ونتيجة" لذلك، فربما سيجد الرسماليون وخدمهم الوضيعين من مفكري الأقتصاد السياسي البرجوازي الحلول المؤقتة للازمة الحالية اسوة" ببقية الأزمات الأقتصادية العالمية التي اصابت النظام الراسمالي منذ لحظة ولادتها حتى هذه اللحظة. فلو كانت الطبقة العاملة وطليعتها الثورية حاضرة" في ميدان الصراع السياسي العالمي لتغيرت الأوضاع بشكل سريع لصالح المجتمع الإنساني. ذلك لأن كل ما حدث الآن بكل تداعياته وتأثيراته الهدامة على حياة ومعيشة الإنسان يعتبر مادة سياسية وأجتماعية في غاية الأهمية بالنسبة لتحرير الإنسان من جور النظام الراسمالي، فلو كانت الطبقة العاملة منظمة بشكل جيد في حزبها الطبقي وقامت بالفعل الثوري تحت قيادة الشيوعية العمالية، لتمكنت بسهولة من تثوير الأوضاع العالمية والتخلص بصورة نهائية من النظام الرأسمالي العفن. ولكن مع غياب القوة الطبقية للعامل فإن الرأسمالية ستتمكن إن عاجلا" أم آجلا" من معالجة الأزمة الحالية بصورة مؤقتة. وإنني أتوقع أن تستمر الأزمة الحالية لأكثر من سنة كما وإن آثارها السياسية والأقتصادية على الأقتصاد العالمي ربما تبقى لأكثر من عقد من الزمن. وعليه فهناك سؤال يطرح نفسه: هل من الممكن أن تتخلص البشرية بشكل نهائي وتام من هذه الأزمات العاصفة التي يصاب بها النظام الاقتصادي الرأسمالي؟.

 

وهذا ما سنحاول الاجابة عليه في العدد القادم...