أيها السادة الرأسماليون، ماذا بعد السوق الحرة ؟!

الجزء الثاني

  جليل شهباز

 

إذا" فما هو السبب الحقيقي لتلك الأزمة؟ إذا أردنا أن ننقل صورة" واقعية للأزمة الحالية إلى القارئ العزيز فينبغي أن نقوم بتحليل تلك الظاهرة الأقتصادية من حيث نشوئها وتطورها وأتجاه حركتها هذا بالإضافة إلى ضرورة رؤيتها من حيث كل أرتباطاتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية وعندها سنتمكن من تحديد قانون حركتها وكل مكوناتها وعناصرها الفاعلة وبالتالي يمكن التوصل إلى إعطاء الصورة الواقعية لتلك الظاهرة الأقتصادية. ولذلك يجب أن نعلم بأن تلك الأزمة لم تكن حالة عرضية عابرة قد تعرض لها الأقتصاد العالمي عموما" والأقتصاد الأمريكي خصوصا" بل، أن الأزمات الأقتصادية تعتبر بالنسبة لأسلوب الإنتاج الرأسمالي إحدى أهم الخصائص التي تتميز بها طبيعة النظام الأقتصاد الرأسمالي منذ نشوئه التاريخي ولحد هذه اللحظة. ولكن أصحاب المنطق الشكلي لا يرون الحقائق العلمية بهذه المنهجية العلمية بل، يتعاملون فقط مع ظاهر الأشياء دون الخوض إلى داخل الشيء للوقوف عند قانون حركة الشيئ وعلاقاته الداخلية التي تحدد ظاهر الشيئ وشكله الخارجي. وبذلك فإن الأكتفاء بالتفسير الشكلي فقط سوف تعطي صورة مشوهة وغير واقعية عن الشيئ.

وعلى هذا الأساس فإن معظم محللي ومفكري الأقتصاد السياسي البرجوازي قاموا بتفسير الأزمة المالية الحالية وفق المنطق الشكلي ولذلك فأنهم توصلوا إلى نتائج خاطئة وحلول غير واقعية وغير عملية. وبذلك فإن الإعلام الرأسمالي ومعهم بعض مفكري الأقتصاد السياسي البرجوازي قد صور تلك الأزمة على أنها نتيجة مباشرة لإفلاس المصارف العقارية على أثر قيام تلك المصارف بتقديم قروض ميسرة بغية بناء المزيد من المساكن مما ادى إلى زيادة العرض عن الطلب زيادة خيالية وبطبيعة الحال فإن تلك الزيادة قد أدت بدورها إلى انخفاض مماثل لأسعار العقارات وإيجار الدور السكنية ورافق ذلك بالضرورة عجز أصحاب تلك العقارات عن الإيفاء بتسديد ديونهم للبنوك العقارية وهذا بدوره أدى إلى أنهيار تلك المصارف. وفي الحقيقة لم تبق المشكلة عند هذا الحد بل، إنتقلت العدوى إلى بقية المصارف على اثر تشابك المصارف المنهارة مع كامل النظام المصرفي، وعلى أثر فقدان الثقة لدى الدائنين بالنظام المالي وقيامهم بسحب ودائعهم من البنوك، مما أدى إلى انهيار النظام المالي في الولايات المتحدة برمته، وبما أن النظام المصرفي الأمريكي هو النظام الرائد لمجمل النظام المالي والمصرفي العالمي، وبما أن النظام المالي والمصرفي الأمريكي متشابك ومتداخل مع كامل النظامل المصرفي والمالي العالمي فانتقلت الأزمة بسرعة البرق إلى كل النظام المالي العالمي. وتأن الآن معظم حكومات العالم من وطأة هذه الأزمة والأخطر من كل ذلك فإن كل الإجراءات الوقائية والعلاجية التي إستخدمتها الحكومات الراسمالية لتجاوز هذه الأزمة لم تحقق النجاح لحد هذه اللحظة، وليس هذا فقط بل، إن هذه الأزمة تتعمق وتتوسع يوما" بعد يوم. ولكن كل ذلك ليس في حقيقة الأمر سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. وسنوضح ذلك لاحقا". وهناك آخرون يقولون بأن سبب ذلك الأنهيار يعود إلى انعدام وفقدان الرقابة على مختلف الأنشطة المالية والمصرفية للبنوك.

 

في حين أن آخرين ينسبونه إلى غياب دور الدولة في تنظيم الحياة الأقتصادية وتوجيهها والإشراف عليها وترك الأمر لليد الخفية أي لآليات السوق في تنظيم الحياة الأقتصادية بموجب قانون العرض والطلب...وإلخ من الأسباب التافهة التي تفسر وتحلل الأزمة الراهنة. وبذلك فإذا أخذنا ايا" من هذه الأسباب قد يبدو سببا" معقولا" إذا إكتفينا بالمنطق الشكلي لتحليل الظواهر الأقتصادية. أما إذا إستخدمنا المنطق الجدلي بغية تحليل تلك الظواهر فإننا سنتوصل إلى نتائج مغايرة تماما" وستنكشف لنا حقائق تلك الظواهر ونتائجها الواقعية كما هي وستنكشف الصورة الحقيقية للظاهرة المعنية على أساس العلاقة الجدلية الحية بين السبب والنتيجة. ولذلك نرى من الضروري أن نلقي نظرة" خاطفة على كيفية نشوء الأزمات المالية والاقتصادية ومن ثم نمزق غشائها الخارجي لكشف ماهية تلك الأزمات وكل روابطها الداخلية والخارجية.. كما هو معلوم إن الأزمات المالية والأقتصادية رافقت النظام الرأسمالي منذ لحظة ولادته وستبقى ملازمة له حتى لحظة أنهياره ذلك لأن النظام الراسمالي هو نظام متناقض قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والأستغلال الوحشي لقوة العمل الإنساني ولذلك فإن التناقض بين العمل ورأس المال يعتبر تناقض أساسي في نظام الإنتاج الرأسمالي في حين تتمحور بقية تناقضات النظام الرأسمالي حول ذلك التناقض الأساسي . وبهذا فمن مصلحة رأس المال أن يكون قانون العرض والطلب هو الذي ينظم الإنتاج الراسمالي ويتحكم بالسوق، ومن مصلحة الراسماليين أن يكون فوضى الإنتاج هو السائد على مجمل عمليات الإنتاج حتى يتمكن كل راسمالي على حدة، بحكم أنانيته وتعطشه للمال والثروة، من ضخ أكبر كمية من الإنتاج في السوق بغية الحصول على أقصى حد من الأرباح، ومن مصلحة رأس المال أن يوسع ويزيد أرباحه حتى ولو كان الثمن طحن عظام البشر، ومن مصلحة الراسماليين والرأسمال أن ينتج ويعمل ويسير دون إشراف أو رقيب من اي كان، أي وفق مبدأ ( دعه يعمل دعه يمر ). وبموجب كل ذلك كان نظام الإنتاج الراسمالي، منذ شيوع علاقات الإنتاج الرأسمالي على النظام الأقتصادي، يتعرض لأزمات دورية تتكرر عشرة سنين مرة" واحدة، أي أن نظام الأقتصاد الرأسمالي عندما كان يتعرض للأزمة المالية والأقتصادية، كان يقطع دورة" كاملة تمتد لعشرة سنين وكان يمر نظام الإنتاج بأربعة مراحل تتميز: بالركود والكساد ثم يتبعها الأنتعاش والأزدهار. وكان أعراض الأزمة تظهر على نظام الإنتاج الرأسمالي عندما كان بفعل فوضى الإنتاج الرأسمالي يقذف كل راسمالي أقصى كمية من منتوجاته في السوق بغية الحصول على أكبر مقادير من الربح. فكان ينتج من ذلك زيادة كبيرة للعرض على الطلب وعلى أثرها كانت تهبط أسعار منتوجاتهم إلى ما دون كلفة الإنتاج ويتبعها إفلاس المؤسسات الإنتاجية وغلق أبواب المعامل والمصانع وقذف مئات الألوف أو ربما ملايين العمال إلى الشارع ليلتحقوا بجيش العاطلين عن العمل، وهذا ما كان يؤدي إلى عجز تلك المؤسسات من الإيفاء بألتزاماتها المالية أمام البنوك وبفعل ذلك كانت تلك المصارف تصاب بنفس الأعراض. وأثر كل ذلك كانت تتعمق وتتوسع الأزمة الأقتصادية ليصاب بها مجمل النظام الرأسمالي بفعل وحدة المصالح وتشابكها على الصعيد العالمي . وكان في معظم الأحوال تدخل الدولة هي التي تبعث الروح من جديد لنظام الإنتاج الراسمالي إما من خلال تقليص الإنفاق الحكومي أو أتباع بعض السياسات المالية التي من شأنها أن تشجع الأستثمار وتحرك الأسواق أو قيام الدولة بنفسها بالأستثمار وكان يتبع كل ذلك انتقال الدورة إلى مرحلة الانتعاش والأزدهار.. وإستمر الحال على نفس المنوال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 عندما تم إعادة تقسيم العالم ومناطق النفوذ السياسي والاقتصادي بين قوتين رئيسيتين هما الأتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وما رافقها من تكملة تكوين رأس المال المالي وتعاظمه وتقويته، نقصد بالرأسمال المالي، أندماج الرأسمال المصرفي بالرأسمال الصناعي، والذي يرمز عادة" بالأوليغاركية المالية والذي يتميز بإخضاع النشاط الأقتصادي والعلاقات الأقتصادية وعمليات الإنتاج في بلدان العالم الثالث لسيطرته ولمصلحة عملية حركة وتراكم رأس المال في البلدان الصناعية المتقدمة. وعليه فإن هذه الخصيصة لرأس المال المالي قد أوجدت الإمكانية الموضوعية لتقوم أقتصاديات بلدان العالم الثالث بأمتصاص الأزمات الأقتصادية التي تتعرض لها البلدان الصناعية المتقدمة، ذلك لأن عملية الخضوع الأقتصادي والهيمنة الأقتصادية للبلدان الرأسمالية المتقدمة على بلدان العالم  الثالث قد خلق أوضاعا" جديدة تحولت على أثرها بلدان العالم الثالث إلى اسواق مغرية لتصريف فائض الإنتاج عن حاجة الأسواق المحلية في البلدان المتقدمة، وتحول تلك البلدان إلى ميدان خصب لأستثمار رساميل البلدان المتقدمة والحصول على المواد الأولية للصناعة الراسمالية بأسعار بخسة والأهم من كل هذا وذاك هو حصول رأس المال على العمل الرخيص الذي حقق للأنظمة الرأسمالية فائض الربح الأمبريالي والذي يساوي الفرق بين معدلي القيمة الزائدة في كل من البلدان الصناعية المتقدمة وبلدان العالم الثالث، والذي يسيطر عليه الراسمال المالي إما بحكم التبادل التجاري الغير متكافئ أم بحكم الأتفاقيات التجارية الجائرة أو منح القروض للبلدان النامية بشروط قاسية وأرباح خيالية، أو ربما من خلال عملية الأستثمار المباشر لرساميلهم بأستخدام العمل الرخيص في مؤسساتهم الصناعية والإنتاجية وفي ظل أقسى الظروف وفقدان الأمن الصناعي بشكل تام.

 

وبهذه الصورة فإن الرأسمال قد تمكن من الأستمرار بالنمو والتوسع وتخلص بصورة مؤقتة من الأزمات الدورية وذلك بتصدير أزماتهم المالية والأقتصادية إلى بلدان العالم الثالث. وبقي أوضاع الرأسمال على هذه الحالة حتى نشوء العولمة الأقتصادية أي عندما بلغ تراكم رأس المال والإنتاج الرأسمالي حدودا" فوق التصور من أحد الجوانب وبلوغ عشر سكان العالم دون خط الفقر من الجانب الآخر.

وللموضوع بقية....