ستبقى ثورة أكتوبر العظمى رمزاً للتمدن والتقدم والمساواة!

 

 جليل شهباز

gelil@arcor.de

 

تمر على البشرية هذه الايام ذكرى قيام ثورة أكتوبر العظيمة في روسيا. تلك الثورة العظيمة قد غيرت مجرى التأريخ العالمي وكانت أهم حدث من أحداث القرن العشرين وأخطرها على الرأسمالية ونظامها الاجتماعي البرجوازي، لقد نجحت ثورة أكتوبر وظفر البلاشفة بالسلطة السياسية في ظل موازنات وأوضاع سياسية واجتماعية داخلية وخارجية في غاية التعقيد. فقبل أن تطيح ثورة شباط الديمقراطية البرجوازية بالحكم المطلق القيصري لتحل محلها حكومة كرينسكي البرجوازية كان المجتمع الروسي يئن تحت وطأت الأوضاع العسكرتارية الرهيبة للحرب. بالإضافة إلى أن الحرب كانت تزهق يوميا" أرواح الألوف من المواطنين الروس في جبهات القتال، سلبت ايضا أبسط مقومات الحياة المدنية من الجماهير. كما أن الحرب قد دمرت معظم البنى والمؤسسات الخدمية وخضعت أدق شرايين الحياة الاجتماعية للمجهود الحربي وعلى أثرها شاع الفقر والجوع والأوبئة والتي حصدت أرواح البشر بقدر خسائر الحرب وربما أكثر منها. حينئذ كان الخبز والسلام من أهم المطالب الجماهيرية، في حين راهنت كل القوى السياسية المعارضة للقيصر على ذلك الشعار. وعندما اندلعت ثورة شباط وتم الإطاحة بالحكم القيصري وصعد تحالف الاشتراكيين الثوريين والمناشفة بقيادة الجنرال كرينسكي إلى السلطة! بدلا" من أن تسعى تلك الحكومة إلى تحقيق السلام وتوفير الخبز لأبناء روسيا! سعت إلى الاستمرار بسياسة الحرب وبقت تتمسك بالأحلاف العسكرية وخاب مجددا" آمال الملايين من الجنود الروس الرابضين في جبهات القتال تحت رحمة المدافع وشبح الموت والمرض والجوع، وخاب املهم في تحقيق الصلح وذلك بذريعة الدفاع عن الوطن ومقدسات الأمة الروسية. وفي الوقت الذي كان فيه الصراع على اشده بين الضواري المتصارعة من أجل حصص البرجوازية في كل من البلدان المتحاربة من المستعمرات وتقسيم العالم وفق المصالح العليا للقوى الظافرة في تلك الحرب اللعينة، وعندما كانت مختلف الحكومات البرجوازية المتحاربة مصممة على مواصلة الحرب وإلحاق المزيد من الدمار والأذى بشعوبها وكل شعوب العالم الاخرى قرر البلاشفة بقيادة لينين صد بربرية الأنظمة البرجوازية وحربها الوحشية وإسقاط حكومة الحرب التي كان يقودها كرينسكي ليحل محلها حكومة العمال والفلاحين الثورية وقاموا بتجميع القوى ونظموا صفوف الجماهير من جديد ونادوا الطبقات الثورية داخل المجتمع الروسي للالتفاف حول البرنامج الثوري للحزب البلشفي ودافعوا بكل قوتهم عن شعار الخبز والسلام بين صفوف الجماهير ورفعوا شعار وقف الحرب والصلح الفوري الغير مشروط بين الجنود في جبهات القتال بعد أن تخلى الاشتراكيون الثوريون عن برنامجهم الزراعي الذي كان كفيلا" بأن يحرر الموجيك الروسي من القيود والأتوات الإقطاعية قام الحزب البلشفي بتطوير ذلك البرنامج وجعلها البرنامج الزراعي للثورة الذي حقق بعد انتصار الثورة أحلام الفلاحين الروس الذي تمثل بالحصول على قطعة الأرض. وعلى أثر مثل تلك التوجهات الثورية للحزب البلشفي حدث الاصطفاف الطبقي داخل المجتمع الروسي بسرعة مذهلة وأصبح ميزان القوى الطبقية داخل المجتمع تميل بشكل أسرع لصالح البلاشفة وبعد كل تلك التغيرات أدرك البلاشفة بأن الثورة قد آن أوانها فركز الحزب البلشفي كل جهوده لتنظيم وقيادة الثورة، وعندما أصبح غالبية المجتمع الروسي عموما" والعمال والفلاحين والجنود خصوصا" مع الحزب البلشفي أعلنوا الثورة في أواخر شهر أكتوبر وأطاحوا بحكومة كرينسكي وأقاموا الحكومة السوفيتية للعمال والجنود والفلاحين لتحل محلها.

وعلى أثر ذلك الحدث العظيم هبت العاصفة الثورية واجتاحت الكثير من البلدان الأوربية وانقسم العالم إلى جبهتين،  جبهة القوى الاشتراكية العالمية والعمالية وحركات التحرر في كل أنحاء العالم الذين جعلوا من الاتحاد السوفيتي قاعدتها المادية، والجبهة البرجوازية التي أهملت ودفنت تناقضاتها وصراعاتها الدموية الحادة بشكل مؤقت لتتحد ضد الجمهورية السوفيتية وجبهة القوى الاشتراكية العالمية وحركات التحرر الوطني في المستعمرات ولولا بعض العوامل القاهرة التي أخرجت ذلك الصراع من مجراه الواقعي، والتي لا مجال هنا لذكرها، لكانت الجمهورية الاشتراكية العالمية أمرا" واقعا" في العالم حاليا".. كما وأن نجاح الثورة أرغمت كل القوى والتكتلات الامبريالية المتحاربة على وقف الحرب فورا" ودون شروط وأنعمت البشرية من جديد بالسلام والصلح، وكذالك ألغت الحكومة السوفيتية كل المعاهدات والاتفاقيات الامبريالية التي كانت سببا" في بؤس الجماهير والتي كان روسيا طرفا" فيها وقاموا بفضح تلك المعاهدات والاتفاقيات وحرضوا الشعوب الأوربية  على إرغام حكوماتهم لإلغائها والكف عن امتصاص دماء شعوب العالم ووضع حد لحروبهم الدموية والمدمرة، وبالإضافة إلى كل ذلك فإن الاشتراكية العمالية بقيادة أحزابها الشيوعية قد أصبحت قوة مؤثرة وفعالة في كافة الموازنات السياسية والطبقية في غالبية بلدان العالم، فبفضل التضامن الأممي للعمال والقوى الاشتراكية العالمية مع الثورة البلشفية والحكومة السوفيتية أحبطت كل المحاولات الامبريالية واستفزازاتها وتحرشاتها العسكرية التي كانت تهدف إلى إسقاط الحكومة السوفيتية من خلال الحرس الأبيض، وهذا ما ساعد الحكومة السوفيتية للتفرغ بغية القضاء على قوى الثورة المضادة التي دعمتها الامبريالية بكل قوتها.

أما انجازات الثورة البلشفية على الصعيد الداخلي فهي لا تعد ولا تحصى فبفضل هذه الثورة العظيمة انتقل المجتمع الروسي المتخلف الشبه إقطاعي والشبه رأسمالي الذي كان يقف على مفترق الطرق بين الاشتراكية والرأسمالية إلى الأشتراكية بعدما قرر البلاشفة قيادة المجتمع الروسي نحو الاشتراكية وفي غضون انتصار الثورة أصبحت الإرادة الجماهيرية لأول مرة في التاريخ الإنساني تتجسد في السلطة السياسية وأصبحت تلك السلطة تعبر عن تلك الإرادة في حكومة المجالس التي كانت بمثابة السلطة التنفيذية لمجلس السوفيت الأعلى المنتخب بشكل مباشر من الجماهير والتي جمعت بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وليس الفصل بينها أسوة" بالبرلمانات النيابية البرجوازية والتي تجسد وحشية وسلطة الرأسمال.. وكلذلك أصبح الجماهير لأول مرة في التاريخ الإنساني قادرا" على تحديد مصيره السياسي وعليه فإن هذه النقطة بحد ذاتها تعتبر أقصى مديات التمدن والتحضر لأن الجماهير هي التي تقرر وهي التي تراقب أداء الحكومة وهي التي لها الصلاحية في عزل أي موظف كان مهما كان موقعه في السلم الوظيفي.. ولم تتوقف الثورة عند هذا الحد بل، بدأت بإلغاء الملكية الخاصة الرأسمالية التي تسبب البؤس والشقاء للعمال وكل الجماهير الكادحة وتلحق الأذى والكوارث بعموم البشرية من خلال حروبها المستمرة الملازمة لتناقضاتها الداخلية، فقاموا بتأميم البنوك والمصانع والمعامل ولأول مرة في التاريخ العالمي أيضا" أصبح العمال أسياد نفسهم وصاروا غير مضطرين لبيع قوة عملهم بأسعار رخيصة إلى الرأسماليين من أصحاب المعامل والمصانع والمزارع الكبرى وأصبح منتوج يدهم يرجع إليهم فتم تنظيم المجالس والاتحادات العمالية التي ساعدت العمال على تطوير قدراتهم الذهنية والجسدية وكذلك ساعدتهم في الرقابة على العمليات الانتاجية وكذلك في إدارة المعامل والمصانع.

 

ما أروع ثورة أكتوبر، ياأعداء الاشتراكية! ففي أي بلد من بلدانكم البرلمانية الديمقراطية المتقدمة بلغت مدنيتكم وتحضركم حد منح العمال مثل هذه الحقوق؟!!. أما الفلاح الروسي فكان له حصة الأسد من إنجازات الثورة وهم الذين إستأثروا بها، ومرة" أخرى، لأول مرة في التاريخ الإنساني تم جر عشرات الملايين من الفلاحين الروس للحياة السياسية وإلى الحياة المدنية والحضارية والتمدن، فإن المشروع العملاق لكهربة الريف الذي طرحه لينين قد بدد الظلام الحالك الذي كان تغشي عيون وعقول الفلاحين الروس، كما وإن إنشاء شبكة واسعة من الطرق والمواصلات في كافة أرجاء روسيا المترامية الأطراف قد ربطت الريف المتخلف مباشرة" بالمدينة المتحضرة والعامل الواعي بالفلاح المتخلف كما وإن الفلاحين وأسوة" برفاقهم العمال قد أسسوا جمعياتهم واتحاداتهم لتنجز نفس الأهداف والغايات، وعليه فإن تأسيس مزارع الدولة والمزارع الجماعية والجمعيات الفلاحية وتطبيق العلم والتكنيك العصريين والأساليب الزراعية الحديثة على عماليات الإنتاج الزراعي، قد ساعد أيضا" على مضاعفة معدلات الإنتاج الزراعي وارتفاع معدلات دخول الفلاحين ومستوى معيشتهم، وليس هذا فقط بل، ساعد كذلك على توفير الغذاء لعموم المجتمع وهذه المرة أيضا" فاقت الديمقراطية السوفيتية على الديمقراطية النيابية في منح الحقوق للفلاحين وفسح المجال أمام هذه الطبقة الاجتماعية لتشارك في الحياة السياسية للمجتمع بكامل ثقلها وبالتالي تساهم برفقة بقية القطاعات الجماهيرية في تحديد المسار التاريخي لحركة المجتمع الروسي..

 

أما المرأة فكان موقعها متميزا" داخل الدولة والحزب والمجتمع، السوفيتي، فبينما كانت المرأة، في تلك الحقبة التاريخية في الكثير من البلدان الديمقراطية العريقة محرومة حتى من حق التصويت!! فتحت الثورة البلشفية أبواب جميع ميادين الحياة الاجتماعية أمام المرأة وكانت دور المرأة وموقعها، في جميع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل المجتمع الروسي، لا تقل عن دور الرجل وكانت المرأة موجودة حتى في مركز القرار السياسي لتساهم إلى جانب الرجل في صناعة القرار السياسي.. وعندما كانت المرأة في معظم البلدان الديمقراطية العريقة في تلك الحقبة مضطرة" لبيع جسدها لكي توفر لها ولأسرتها المستلزمات الأساسية للمعيشة، ألغت الحكومة السوفيتية رسميا" ظاهرة البغاء داخل المجتمع السوفيتي بعد أن أزالوا كل الأسباب المادية والاجتماعية التي سبب ظاهرة البغاء وبذلك لم تعد المرأة مضطرة" لبيع جسدها كي توفر لقمة العيش لها ولأسرتها وأصبحت المرأة سيدة نفسها.. وعندما كان موقع المرأة ودورها داخل تلك المجتمعات لا تتجاوز في أغلب الأحيان من إشباع الغرائز الجنسية للرجال وتربية الأطفال والأعمال المنزلية، كان بوسع المرء أن يجد النساء إلى جانب الرجال في المعامل والمصانع والمزارع وكل مؤسسات الدولة السوفيتية بمختلف اختصاصاتها ووظائفها.. وعندما كان في بعض الأحيان تحالف الحظ جمع من النساء في البلدان الديمقراطية النيابية، وخاصة" أثناء فترات الازدهار الاقتصادي عندما كان الطلب يتجاوز العرض في سوق العمل وبالتالي يرتفع معدلات الأجور، ويتكرم أو بالأحرى يضطر أرباب العمل بشراء قوة عمل النساء، فإن وجود المرأة في سوق العمل لم تكن أبدا" من منطلق الحرية والمساواة وبالتالي  إعطاء الفرصة للمرأة كي تختار ما هو مناسب لحياتها ورغباتها وأمانيها الإنسانية، حيث أن معظم الدراسات الاقتصادية بهذا الخصوص تؤكد بأن الدورات الاقتصادية عندما كانت تصل مرحلة الازدهار فإن الطلب على العمل كان يزداد ويرافقها بالضرورة ارتفاع معدلات الأجور وبالتالي انخفاض معدلات القيم المضافة، فكان أرباب العمل يفتحون أسواق العمل أمام النساء وذلك لمنافسة الرجال ومزاحمتهم في سوق العمل حتى يزداد العرض عن الطلب وليرافقها بالضرورة انخفاض معدلات الأجور مجددا" وبالتالي ليعود الأرباح إلى معدلاتها العالية، وحتى عندما كانت المرأة تحصل على العمل فأنها لم تكن تقبض نفس مقدار الأجر مقابل نفس مدة العمل بل كانت تتقاضى أقل بكثير من الرجل وهذه الحالة موجودة في كثير من البلدان البرلمانية لحد هذه اللحظة. بينما الثورة البلشفية أعطت حق العمل للمرأة أسوة" بالرجل وبنفس الأجور مقابل نفس مدة العمل ودون أي تمييز وعلى أساس هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ووفق هذه الرؤية والمنطلقات تحققت المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة وليس فقط وفق المساواة الحقوقية والقانونية. حيث أن مساواة المرأة والرجل إذا كانت فقط أمام القانون فإن ذلك ليس سوى أمر أجوف وحالة سخيفة لأنه إذا انعدمت المساواة الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع فإن المساواة الفعلية يفقد معناها الواقعي ويتحول إلى مساواة شكلية فقط وهذا ما هو نراه حاليا" حتى في أعتق الديمقراطيات الغربية..

 

يا أعداء ثورة أكتوبر! لما كانت أوضاع المرأة وبقية ظروف المجتمع في ظل الحكومة السوفيتية بهذه الصورة فإن مدنيتكم وعلمانيتكم وتحضركم متخلفة جدا" مقارنة" بما حققته ثورة أكتوبر العظمى لأن آفاق تحقق الذات الإنساني بأعمق وأوسع مدياته موجودة في الاشتراكية وليس في نظامكم العفن الذي عفا عليه الزمن.. أما ما تم تحقيقه من انجازات لبقية قطاعات الشعب الروسي كالشبيبة والطلبة والأطفال إلخ، لم يكن بغير المستوى المطلوب. ولو كان باستطاعة البلاشفة بعد وفاة لينين أن يقودوا المجتمع الروسي وفق نفس المنهج الثوري وبنفس الأساليب الثورية والإنسانية لكان المجتمع الإنساني في هذه اللحظة قد وصل إلى أرقى حالات التقدم والازدهار والرفاهية.

 

والآن وبعد ثمانية وثمانون عاما" من اندلاع ثورة أكتوبر العظمى، وعلى الرغم من التطور الهائل لقوى الإنتاج والتقدم العلمي والحضاري، فإن البشرية في كل أرجاء العالم تحتاج إلى ثورة من طراز تلك الثورة أكثر من أي وقت آخر، ذلك لأن الحرمان والكوارث والمأساة الذي يعاني منه البشرية في هذه الحقبة التاريخية، نتيجة للسياسات االلاإنسانية للأنظمة البرجوازية، هي أكثر بكثير من جميع الحقب التاريخية الأخرى. وبما أن ثورة أكتوبر قد أثبتت عمليا" بأنها النظام السياسي والاجتماعي الوحيد الذي يطابق الطبيعة الإنسانية بصورة فعلية والذي تحقق فيه الذات الإنساني وتخلص فيها الإنسان من الأغتراب الرأسمالي فيجب على كل القوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماهيرية الاشتراكية والمناصرة للحرية والمساواة أن تحضر القوى وتنظمها ثم يقودوا مسيرتهم النضالية نحو الثورة الاشتراكية حتى الانتصار النهائي كي ينعم فيها الإنسان بالحرية والمساواة والازدهار.

 

عاشت ثورة أكتوبر

المجد والخلود لشهداء الاشتراكية