الحزب والمجتمع

من جماعة ضغط الى حزب سياسي

منصور حكمت

  الجزء الثاني

الآليات الاجتماعية للسلطة

ان ايلاء العناية بالسلطة السياسية هو بالدرجة الاولى مقولة اجتماعية. فالصراع من اجل السلطة السيايسة لم يكن ابدا من اختراع الشيوعيين. والمجتمع يمتلك آلياته للامساك بالسلطة السيايسة، فالدعاية والتحريض والتعبئة ليست من اختراع الماركسية، والعنف،الانتفاض، الثورة، قمع الثورة، الحرب لم تكن ولا اية واحدة منها من اختراع الاشتراكية والحركة الاشتراكية. الدولة، اسقاطها، والثورة، ليست من اختراع الشيوعيين. فكل تلك، ظواهروآليات اجتماعية. وتلك هي الخاصية الموضوعية للمجتمع حيث يقول للشيوعي كيف يمكن ان تستولي على السلطة، من، وفي اي موقع، بامكانه الامساك بها، وفي اية مرحلة يمكن الامساك بها، وليس برنامجنا المسبق وطرقنا و اساليبنا. نحن لسنا مخترعي منجنيق سياسي جديد لفتح قلاع التاريخ. فاذا كانت مسألة كسب السلطة قضيتنا، فان اول الاسئلة المطروحة هي: ما هي الآليات الاجتماعية لكسب السلطة، وآليات الاستقواء والنصر في الميدان السياسي، في المجتمع المعاصر؟ وهذا هو بحث ملموس جدا. دعونا نسأل، كيف يمكن زيادة عدد الناس المخاطبين، كيف يمكن زيادة عدد الناس المتحدين والمنظمين، كيف يمكن تنظيم حركة تترك تأثيرها على افكار البشر على صعيد اوسع؟ .كيف يمكن محاربة الآراء السائدة ؟ وهذه الآراء السائدة في العالم المعاصر كيف يتم صياغتها واشاعتها بين الناس، ما هي آلياتها وكيف تتم محاربتها؟ كيف يمكن في هذا العالم بهذه الخصائص الانتاجية، السياسية، العسكرية، المعلوماتية، الثقافية، التربوية ، التحول الى قوة يمكنها التأثير على حياة وارادة ملايين الاشخاص من افراد الطبقة العاملة، وجموع الجماهيرالواسعة المتطلعة للحرية والمساواة، وادخالها الميدان وقيادتها وتوجيهها صوب الاتجاه الصحيح؟ اذا اراد حزب سياسي شيوعي عمالي القيام بعمل في هذا العالم عليه ان يكون قويا، عليه ان يتقوى لدرجة يسطتيع معها الحاق الهزيمة بالبرجوازية المعاصرة في عالمها. وهذه هي الكلمات القديمة لماركس حيث ينبغي لتغييرشئ وحتى لافنائه،معرفة كيفية عمله، ويجب معرفة قوانين حركته. لسنا نحن الذين سنقرر كيف يمكننا التحول الى قوة سياسية مقتدرة في العالم المعاصر، فالمجتمع نفسه استنادا الى خصائصه،يعرف آليات تقلباته كذلك. يجب معرفة تلك الآليات. الآليات التي تمنحنا نحن، الحركة والحزب الشيوعي العمالي، الفرصة للتطور، كسب النفوذ، جمع القوى، وتدفعنا للثورة، واخذ السلطة و تطبيق برنامجنا.

 وحين اتحدث عن آليات المجتمع نفسه لا اعني بذلك الآليات القانونية للمجتمع، فالانتفاضة والثورة هما آليات المجتمع المعاصر للتغيير. الهياج، الثورة، الحرب هم آليات المجتمع المعاصر للتغيير. ولكن دس السم في التعامل مع الاعداء في وليمة العشاء، لا ينسجم مع هذا المجتمع، لربما استخدم المأمون الخليفة العباسي هذا الاسلوب لمرات عديدة. وفي سلسلة مراتب ( سربداران)، بالطبع لا اعني هنا اتحاد الشيوعيين الايرانيين، يصل احد السلاطين الى الحكم بهذه الطريقة، حيث يقتل الامير الذي كان جولة بالسكين و يعلن نفسه اميرا. الا ان هذا الخيار ليس مطروحا امامنا اليوم.

 

نحن بصدد مرحلة من حياة الحزب تطرح فيها امامنا بجدية مسألة النفوذ السياسي في المجتمع، الحضور والتواجد في حرب السلطة والامساك بروافع تبديل مواقع القوى في المجتمع. روافع وميادين يشكل الامساك بها والتوغل فيها بموجب خصائص المجتمع المعاصر، امرا حتميا بالنسبة لقوة تسعى للتغيير في المجتمع. ونحن الان نضع ايدينا ولو قليلا على تلك الروافع، ولكن سيبدوا احيانا اننا نتعجب وحتى يراودنا القلق من قدرتنا، ونخاف من انتصارنا ونلجاء الى بيوتنا واحضان امهاتنا. فالبعض يشعر بالاغتراب والانفصال عن هذا التحرك وابرز الوجود السياسي.  ان الشيوعية التي تمارس دعايتها وتحريضها في محلات السكن والحلقات، الشيوعية الحاضرة في صدر القرارات التنظيمية والاجتماعية الصغيرة - السرية، معروفة وليست بغريبة لديهم، الا انها لم تتعود على تلك الشيوعية التي تنصب رايتها وسط المدينة، الشيوعية التي يراها الكل و يعترفون برسميتها، لدرجة تجعل العامل الذي غاب تواجد الحزب في محلته، ان يرفع قامته و يريد الالتحاق بهؤلاء الشيوعيين .

 ولكن خارج هذه النافذة تجري حرب السلطة يوميا ، وتظهر بأستمرار مسارات ومناهج جديدة في هذه الحرب. ان تدخلنا في مسألة السلطة السياسية يتطلب منا تعقب الآليات الاجتماعية للسلطة في المجتمع المعاصر. و بلا شك ان معرفة هذه الروافع والمناهج، والاهم من ذلك،استخدامها ليس بامر سهل. الا ان تشخيص الاساليب التي لا تنفع ابدا حزبا شيوعيا معاصرا ليس صعبا.

 " تقاليد كلاسيكية شيوعية " ام ميراث الاستبداد و الانزواء

 ان الحزب الشيوعي لن يصل الى السلطة ما لم يمسك بهذه الاساليب والطرائق الاجتماعية. ومن جانب آخر فانه اقل الاطراف استعدادا وامتلاكا للامكانيات من اجل الوصول الى تلك الروافع. وما حل بالشيوعية هو ان البرجوازية ومن خلال فرض الهزائم واعمال القمع والضغوطات المستمرة على الشيوعيين، استطاعت تحويل الشيوعية، التي كانت واحدة من الاحزاب المتطلعة للسلطة السياسية في المجتمع والتي ناضلت قبل قرن ونصف من الزمن بنفس الآليات للامساك بالسلطة، الى فرقة شبه دينية هامشية تعرف حياتها السياسية في زاوية من زوايا المجتمع وتكتسب هويتها من تلك الزاوية ولا تسعى اساسا للخروج من هذه الزاوية ابدا. مثل العضويات والفيروسات التي تعيش في الصقيع وتطابق حياتها معه وتبقى حية ولكن بعد نهاية الصقيع واعتدال الجو وارتفاع درجة حرارته سوف لن تعود الى حياة الضوء والدفء، حيث ستعتاد على الصقيع وتعيش فقط في تلك الشروط الحياتية. ان هذا الاجبار الخارجي الذي دفع بهذه العضويات الى التطابق من اجل بقائها مع هذه الشروط الحياتية غير المساعدة، سيتحول بعد حلقتين اواكثر من مراحله الى اسلوب الحياة القائم بذاته لها، ويصبح جزءا من وجودها، جزءا من تقاليدها، وجزءا من هويتها وبهذا لا يمكن تصور حياة اخرى بالنسبة لها سوى هذه الحياة. نحن الشيوعيين عشنا في ظل القمع، قيل لنا لا يمكنكم الخروج علنا وبشكل حر وبقامة مرفوعة والحديث مع الناس، قيل لنا بامكانكم التهامس مع رفاقكم في زاوية ما، في زقاق ما، بشكل مخفي، وفي مكان لايسمعكم فيه اي شخص، حول اي شئ تريدون، وكلا طرفيكم مجبران على العيش في هذه الزاوية والتحدث مع بعض فيها ايضا، حول اي شئ تريدون، وباية لغة تريدون، وباي مقدار من الزمن تريدون، فهذه فرقتكم فقولوا لبعضكم البعض ماتريدون قوله بلغتها، ولكنكم هنا لا تملكون رخصة فتح افواهكم امام الناس وامام المجتمع. وفي هذا الهامش نتعلم نحن وامثالنا ان نحول الحزب الشيوعي من وسيلة للنضال الى دهليز للاقامة والعيش، وظرف للوجود، ولحياة حيث ينبغي العيش فيه. وان لهذه التقاليد رموزها وآلهتها وملائكتها، لها تماثيلها و نصبها و اعرافها، ولها تاريخهاوسننها ولغتها والفاظها الخاصة بها. ويصل الامر حد تصور نفس اعضاء هذا التيار ان الشيوعية ليست وسيلة نضالية، بل طريقة ابتدعتها مجموعة من الاشخاص الذين حكم عليهم العيش في هامش المجتمع نتيجة قمع البرجوازية ودعايتها المناهضة لهم، ومن اجل الاحساس بالفخر واعطاء حياتهم معنى خاص ومن اجل اقناع انفسهم بانهم بصدد تغير العالم. ان هذا الطراز من الشيوعي متى ما خرج على هذه التقاليد، سسيصبح غريبا عن المجتمع، ساذجا، عديم الاقدام والحركة، ولا يمتلك خبرة في اي عمل، يخدعونه ويرسلونه حتى يخرج ليقول:- انا اريد ان اثور، سيقوم شخص لم يكن لديه حتى الامس اي عمل بالماركسية، استاذ يميني في جامعة لندن او طالب بالماجستير في الجامعة التكنلوجية في طهران اوابن للحاج المصلي الفلاني الذي ارسلوه للدراسة في فرنسا،سيقوم بالتوجه نحوه قائلا: ايها السيد انما تقولنه مغاير ومتناقض مع الماركسية، هل ان الظروف الموضوعية والذاتية لثورتكم جاهزة؟ وسيثور ويهتاج شيوعينا قائلا: حقا؟ هل هذا متناقض مع الماركسية؟ سينطوي على نفسه مجددا ويذهب ليبحث داخل فرقته الظروف الموضوعية والذاتية للثورة العمالية ومستلزمات التحقق التاريخي للاشتراكية عام 3000. وحتى يدخل شيوعي واحد ميدان السلطة، سيظهر خمسين مراقب اجتماعي ويقولون لا يمكن ذلك ايها السيد،انك شخص نظري، انك صاحب تقاليد معينة، وتؤمن بموضوعية قوانين التاريخ وتؤمن بتعاليم ماركس، فاين هي طبقتكم؟ يذكروننا باننا من جنس مختلف يجب ان لا نتورط في موضوع السلطة، كلما ذكرنا اسم السلطة كلما بدأوا بالزعيق، آه، لقد جاء المستبدون والتوتاليتاريون، في حين انهم هم اصحاب السجون والمحاكم ويسجنون ويضربون الناس، وانهم هم الذين اوجدوا المحارق البشرية واشعلوا الحروب، يمطروننا يوميا بجبل من القيح والوساخات والتهديدات والرصاص كي نظل في نفس الزاوية والا نرفع رؤسنا للتدخل في امور المجتمع والا نهتم بالآليات الاجتماعية اللازمة للتدخل في المجتمع و تحقيق التغيير فيه. ولكي نخلو بانفسنا في عالم اليسار وان نحيا فيه. ايها الرفاق، لقد عاش القسم الاعظم من اليسار الراديكالي والفرق الشيوعية، من بعد البلاشفة على الاقل، في هذه الأروقة وعلى هامش المجتمع.

 

ان القسم الاعظم من الاساليب والسلوكيات التي نعتقد بانها حقائق ومميزات ذاتية لحركتنا هو في الاصل نتائج مقحمة ودخيلة للضغوطات الخارجية التي وضعوها علينا خلال سنين طويلة وانه ليس من صلب خصوصيتنا قطعا. ليست لغتنا لغة السفسطة الغامضة، على الرغم من اننا يجب ان نكون اناسا واعيين ومطلعين بحيث نستطيع سبر اغوار اعقد البحوث النظرية ، لكن لغتنا هي، في نفس الوقت، اللغة التي يتحدث بها الانسان المعاصر عن قضاياه. ان همنا ليس هم فرقتنا بل هو هم الانسان المعاصر على الرغم من ضرورة الاهتمام بصفنا ايضا كي يكون صفا قويا. ليس همنا تصنيف واعادة تصنيف ما قاله من سبقونا، بل ان همنا هو الرد على قضايا المجتمع المعاصر. انني من مؤيدي الماركسية الاكثر غلاظة مما يمكن ان تتواجد. اعتقد ان الماركسية الاكثر غلاظة هي تلك الماركسية التي تستطيع ان تؤثرعلى العالم الخارجي. هذا هو كلام ماركس عندما قال، ان المجتمع هو الاصل. وهو الذي يجسد روحنا وفكرنا وعواطفنا وشعورنا وعلم جمالنا وكل شئ لدينا. ولكن الذي حصل هو ان الذين كانوا من المفترض ان يأخذ المجتمع هذه المكانة المصيرية في عقليتهم، امسوا اكثر الفرقاء لا ابالية بآليات و قوانين حركة المجتمع. عندما كنا نتكلم عن المبلغيين الشيوعيين والمحافل العمالية، كنا نريد ان نقول نفس الشئ، اي كنا نريد ان نقول، انظروا ما هي الآلية التي اوجدها المجتمع نفسه لتوحيد العمال على الاقل. تعالوا لنندمج مع هذه الآلية ونعمل حسبها. قولوا ما لديكم هناك حيث يوجد من يستمع اليكم. كان القصد من بحث المحافل العمالية هو التعرف من جديد على زاوية من الآليات الواقعية للمجتمع، والتذكير بان الطبقة العاملة موجود اجتماعي وقد تشكلت في اطار اجتماعي. ليس صحيحا بان العمال، في غياب الفرق الشيوعية، هم  عدد من الاناس المنفردين الذين يتأملون السماء في سكون وخمول الىان ياتيهم نفر ليقول لهم بان الفقر سئ والاتحاد مفيد. لقد قلنا اطمأنوا فأن محافل المقاومة موجودة وسط العمال في كل لحظة. لقد قلنا بان شرط التدخل في مصير المجتمع هو الاعتراف بآليات وقوانين حركته. هذا هو اساس الماركسية. ان الانزواء عن المجتمع وعدم القدرة على استخدام آلياته لاجل استبدال القوى وابراز الوجودالسياسي وعدم الحضور في ميدان معركة السلطة واللامبالاة نحو المعضلات الموجودة في المجتمع و التقوقع في اطار موجود صنفي و فرقوي وهامشي، كلها ليست من تقاليد العمل الكلاسيكي الشيوعي بل انها ميراث الخنق والقمع والاندحار. يجب علينا الا نتقبل هذا التصور عن الحياة السيايسة وعن الاسلوب الكلاسيكي للنضال الشيوعي، وذلك اولا، لان هذا الكلاسيك نفسه كان شئيا آخرا قبل عشرين سنة ، وثانيا، لاننا انفسنا قد لعبنا دورا كبيرا في تغيير هذا الكلاسيك. في النتيجة انني لا اعطي اية قيمة خاصة للبحث القائل بان هذا ليس الاسلوب الكلاسيكي الشيوعي. نحن الذين نعرف ماهية العمل الشيوعي. اذا وصلنا الى استنتاج باننا يجب ان نسير باتجاه معين، وذلك استنادا الى تفكيرنا والمتطلبات السياسية والاهداف الاجتماعية، عندئذ يجب ان نسير في ذلك الاتجاه دون ان نقلق على ان احدا لم يسلك  هذا الطريق قبلناو ان الطريق صعب وغير سالك.     

   للبحث تتمة

 ترجمة : يوسف محمد  وسلام عزيز